– يكفي مجرد التدقيق بالمفردات الواقعية لحياة إقليم كردستان لاكتشاف أنّ الاستقلال الذي يعيش الإقليم في ظله هو سقف ما تعنيه كلمة استقلال، كموضوع مطروح على الاستفتاء. والباقي من مفردات الاستقلال والقصد فك التشابك مع الحكومة المركزية في العراق، يشبه ما يطال انفصال بريطانيا عن الاتحاد الأوروبي، ولا يمكن حلّه بغير التراضي. وبالتأكيد بريطانيا لم تستفت شعبها على الاستقلال بل على فكّ التشابك مع الاتحاد الأوروبي والخروج من الصيغة الاتحادية، وكان أوْلى بقيادة كردستان أن تكون صادقة وواضحة بما تعنيه بالاستفتاء، لهذه الناحية، وتضع أمام شعبها بشفافية ميزان الأرباح والخسائر، وأن لا تقدّم إلا بالتوافق على الاستفتاء طلباً لتفويضها التفاوض لفكّ التشابك بعدها، وأن يكون ضمن التوافق حكماً حلّ رضائي لوضع المناطق المتنازع عليها، لا بلطجة كما يحدث الآن.
– كردستان مستقلة، هذه حقيقة ساطعة، فلها برلمانها وحكومتها وجيشها، ودبلوماسيتها، وأمنها، وتسيطر على موارد النفط في مناطق سيطرتها كاملة من دون أن تمنح الحكومة المركزية شيئاً منها، وتستولي على عائدات الجمارك على الحدود الخاصة بالعراق الواقعة تحت سيطرتها، ولا يدخل الجيش العراقي مناطق سيطرتها، وإنْ احتاج لضرورات القتال ضدّ داعش ينال إذناً محدوداً بالزمان والمكان، فعلى أيّ استقلال يستفتون، وعلاقة كردستان بالعراق كعلاقة أيّ دولة أوروربية بالاتحاد الأوروبي؟ فهل فرنسا واسبانيا تطلبان الاستقلال، أما التشبيه بنماذج كاتالونيا مع اسبانيا وسكوتلندا مع بريطانيا تزوير للتاريخ والجغرافيا والقانون والسياسة؟
– حتى الصيغة الاتحادية القائمة هي كذبة كاملة، فكردستان تنال ميزات الصيغة الاتحادية وميزات الاستقلال معاً، تمنح الحكومة العراقية فرصة ادّعاء عراق موحّد، مقابل التنازل واقعياً عن حقوق الدولة الاتحادية، من التنازل عن نشر الجيش على الحدود إلى التنازل عن استيفاء عائدات النفط أو نسبة منها، ومعها التنازل عن كلّ صلاحيات البرلمان العراقي والحكومة العراقية لحساب الحكومة الإقليمية والبرلمان الإقليمي للتشريع وممارسة السلطة بكلّ أبعادها وعائداتها، فبغداد شريك الغرم وأربيل شريك الغُنم بضمّ الـ غ .
– السؤال عن سبب السير بالاستفتاء ضروري هنا، والجواب هو بالخدعة التي يريد مسعود البرزاني تمريرها عبر فرض أمر واقع بحسم مصير المناطق المتنازع عليها، خصوصاً كركوك بضمّها للاستفتاء وهي مصادر الثروة. وهذه هي الفرصة المناسبة في ذروة الانشغال العراقي بالحرب على داعش، مستغلاً سيطرة البشمركة عليها عملياً، ومع كلّ ذلك طيّ صفحة مئتي مليار دولار هي فوائض عائدات بيع النفط طوال سنوات تزيد عن العشر تقاضاها البرزاني، لم تدخل لا في موازنة العراق ولا في موازنة إقليم كردستان، وفي المقابل يمنح البرزاني في توقيت حرج، الأميركيين و«الإسرائيليين» منصة سياسية لابتزاز قوى المنطقة، والدخول على خط رسم خرائط جديدة. بقوة هذا الابتزاز يكون أمن «إسرائيل» في رأس جدول الأعمال، بعدما فقدت ورقة داعش فعاليتها، والصفقة ثلاثية للبرزاني المال وللأميركي الابتزاز التفاوضي ولـ«الإسرائيلي» الإشغال والاستنزاف لمحور المقاومة، ولكن لشعب كردستان الكارثة.
– لم تُصَب ولن تُصاب قوى المقاومة بالذعر، ولو أنها تصرّ على التحدّث بعقلانية مع أكراد المنطقة كجزء من مكوّناتها، من موقع الحرص على عدم منح الأميركيين و«الإسرائيليين» فرص العبث بنسيج شعوب المنطقة، لكن التحسّب كان دائماً للعب هذه الورقة. وهذا ما يفسّر التعامل مع الأتراك بطريقة فيها الشدّ والجذب والمرونة والفرص، فتركيا تواجه خطراً وجودياً عبر قيام دولة كردية، وستكون عنوان المواجهة مع الانفصال الكردي، وستلجأ إلى حلف الأطلسي طلباً لموقف من تهديد يطال أحد أعضاء الحلف، وستتخذ الإجراءات التي تسبّب حصاراً اقتصادياً يُنهي ظاهرة صعود أربيل وازدهارها، ويتوقف تدفق النفط، ويشحّ المال، وتقفل الأجواء بوجه الطائرات، وتُغلق الحدود وتتوقف المتاجرة، وإنْ تمّت مناوشة تكون تركية كردية، ويكتشف الأميركي أنه أراد حلّ مأزق فصنع مأزقاً أكبر بين حليفين، وأنّ قوى المقاومة الحية والفاعلة لم ولن يصرفها شيء عن التحدي «الإسرائيلي». لكن ما سيكتشفه قادة كردستان بعد مقامرتهم الفاشلة، أنّ العودة للصيغة الاتحادية قد لا تكون متاحة بعد الفشل. وإنْ بقيت متاحة فسيكون تطبيقها صارماً بلا دلال ولا دلع وحساب بمفعول رجعي عن أموال النفط التي نُهبت.
– أما في سورية فلا تهاون مع أيّ محاولة انفصال، هذا ما تقوله الأيام القريبة المقبلة بالحديد والنار، وسيقرأه الأميركيون بالوقائع ويقفون مذهولين يبتلعون لعاب عجزهم.