– إنْ كان يصحّ القول لأحد إنّ طابخ السمّ آكله، في ضوء ما جرى من مياه في طاحونة حروب المنطقة، فهذا الأحد هو القيادة التركية، التي لولاها بما تمتلك من مقدرات وما تحتلّ من جغرافيا وما ركب رأسها من أوهام وأحلام، لما كانت الحرب التي دارت في فلكها كلّ حروب المنطقة، وهي الحرب التي شنّت لإسقاط سورية وكان نظام أنقرة حجر الرحى في تمكينها من التحوّل من خطة إلى واقع. وها هو المسار الذي كانت فاتحته تعريض استقرار سورية ووحدتها وتماسكها للخطر، تبدو خاتمته بتعريض استقرار تركيا ووحدتها وتماسكها للخطر.
– لم يكن في حساب القيادة التركية، وعلى رأسها الرئيس التركي رجب أردوغان، أنّ الفشل سيكون من نصيب الحرب على سورية، ولا أنّ إيران وروسيا ستحاصرانه حتى التراجع والفشل، ولا أنّ واشنطن عندما تفشل ستنتقل لخطة بديلة عنوانها خصوصية كردية على حساب تركيا، ولا أنّ الحرب على داعش والنصرة ستفرض عليه الشراكة فيهما، بعدما شارك بالرعاية والعناية والوصاية، لكن الأخطر الذي لم يخطر على بال أردوغان وقيادته السياسية والأمنية أنّ مَنْ ترعرع بسرقة مال النفط العراقي ونهبه بالتعاون مع مافيات حاكمة في تركيا سينقلب للانفصال فاتحاً طريق تفكك تركيا، بدعم أميركي «إسرائيلي»، مراهناً أنّ الرشى المالية التي ينالها المقرّبون من عائدات النفط المنهوب ستحمي قرار الانفصال. لكن كلّ ذلك حصل وها هي تركيا تحصد ناتج العبث بمستقبل سورية، ووحدتها واستقرارها، تهديداً لمستقبل تركيا ووحدتها واستقرارها.
– خلال سنوات مضت تصرّفت أنقرة على قاعدة أنّ أربيل أقرب لها من بغداد، وأنّ أربيل حليف موثوق وطهران خصم موصوف. وها هي تكتشف أنّ هذه القواعد تسقط دفعة واحدة، وشاركت أنقرة باللعب على أوتار الفتنة المذهبية مع السعودية وقطر، أملاً بأن تكون زعامة العالم الإسلامي من باب هذه اللعبة. وها هي تجد نفسها شريكاً في صناعة مناخ عراقي وإقليمي يتوحّد فيه الشيعة والسنة. فمن جهة عرب العراق في ضفة واحدة فوق التقسيمات المذهبية والسياسية وكلّ الاشتغال على قسمتهم يسقط بسبب اللعبة الجديدة واستشعار الخطر. وإقليمياً يبدو الأتراك والإيرانيون بما يمثلان مذهبياً كقطبين، في مركب واحد، وتوحيد المناخ العربي الشعبي والمناخ الإسلامي الشعبي ما كان ليكون لولا هذه المخاطرة التي انتدب الأميركيون و«الإسرائيليون» مسعود البرزاني وقيادته للقيام بها بوهم المكاسب وانتهاز اللحظة. وهذا إنْ دلّ على شيء فعلى حجم المأزق الأميركي، حيث كلّ خطوة تبدو دفعاً إلى الأمام تظهر كلفتها أعلى من عائداتها المتوقعة.
– في الواقع إيران وسورية والمقاومة بمنأى عن الحاجة للخوض مباشرة في ملف انفصال كردستان العراق، وقرار منع أيّ صيغة انفصالية لأكراد سورية سابق لخطوة البرزاني، وما ترتّب على هذه الخطوة منح المشروعية الإضافية لكلّ ردع لمشاريع انفصال كردية هجينة بلا أفق قد تشهدها سورية، وسيكون كافياً ما ستجده تركيا قدراً ينتظرها ومعها الحكومة العراقية، وكلتاهما في خانة حلفاء بدرجة أو بأخرى لواشنطن، كما البرزاني، ولو كانت الحكومتان على صلة تزيد وتنقص بمحور المقاومة، فالمعركة الفعلية ستبقى في بيت متعب للأميركيين يصعب فيه الخيار الواضح والمعلن، حيث الخسائر أيضاً والأكلاف، أكبر من الأرباح المتوقعة، بينما سيكون سهلاً على محور المقاومة المجاهرة بخياراته من جهة، وتبريد جبهاته من جهة أخرى، لأنّ هناك مَن سيتولاها مضطراً بقوة الضرورة والقدر، ولن يكون لـ»إسرائيل» أن تفرح بجذب مصادر القوة إلى جبهة أخرى بعيداً عنها لترتاح ويهدأ قلقها من الغد المرعب.
– سياق التطورات المتراكم منذ معركة حلب، كما سياق السلوك الأميركي الأرعن والسطحي والمتسرّع، يقولان إنّ تركيا تجد نفسها شيئاً فشيئاً في حضن روسي إيراني، وإنّ عليها التموضع بوضوح متزايد ضمن هذا الثنائي، وإنّ الخطوة الأولى الحاسمة هي بما تجده أنقرة قدرها بالخصومة مع أربيل والتعاون مع بغداد، عكس ما كان طوال سنوات، وما سيليه سيكون موضوعه سورية بالتراجع الذي يتفاداه أردوغان منذ زمن والإقرار أنّ الأمن القومي التركي يبدأ بالاعتراف بأن لا شرعية لدور في سورية بلا رضا الحكومة السورية والرئيس السوري والجيش السوري، وأنّ اطمئنان تركيا لحدودها الجنوبية لن يحققه العبث التركي في الجغرافيا السورية، بل الاستثمار على مشروع الدولة السورية، وبدايته الإقرار بأنّ الانسحاب العسكري من الأراضي السورية لحساب الجيش السوري أولى علامات التعاون في ضمان الأمن المتبادل عبر الحدود، وأنّ شرعية الدور تمنحها شرعية الدولة المعنية المقابلة وشرعية رئيسها. وكلّ كلام آخر هراء.