هل من داعٍ لنعود بالذاكرة إلى ما قاله الآباء والإخوة الكبار، عن الموقف من الفلسطينيين الذين قبلوا البقاء في أراضيهم بعد قيام الكيان الصهيوني؟
يبدو أننا بحاجة إلى ذلك. إلى أن نتذكر جيش الإنقاذ الذي لم يصل، وجيوش التحرير العربية التي لم تتحرك، وحركات المقاومة التي تعبت أو خرجت... كل هؤلاء، كانوا يعيبون على من بقي في أرضه أنه متخاذل ومستسلم للاحتلال.
وفي فترة لاحقة، صرنا نتّهم أبناء الأرض بأنهم قليلو الوفاء. ما بالهم لا يقومون بانتفاضات وأعمال مقاومة مسلحة تحررهم من العدو الغاصب. ثم قلنا لهم: لا رأي لكم في إدارة الصراع مع العدو. فقط اصمتوا، ونحن من سيتولى المهمة.
ولما هاجر منهم من هاجر، بقصد العلم أو العمل أو هرباً من الاضطهاد، تعاملنا معهم بخشية وحذر. ومن بقي على تواصل مع أهله هناك، بات مشتبهاً فيه لدينا، ومن تكلم منهم العبرية صار فزاعة، ومن حمل كتاباً أو جريدة أو منشوراً بالعبرية بات بالنسبة إلينا «متأسرلاً» وانتهى أمره.
هنا في لبنان، عندما كانت الأم تخوّف أولادها من اليهودي حتى يناموا باكراً، كان الأهل يواصلون حديثهم، همساً، عن أبناء الطرف الآخر من الحدود، ويتذكّرون رحلات العمل والترفيه إلى حيفا وعكا وصفد وبحر الناقورة الجنوبي. وبعض كبارنا، بقوا يسألون عن مصير فلان أو فلانة، وعمّا حلّ بهم.
تأخر الوقت طويلاً حتى تغيرت بنا الأحوال. وحتى وصلنا الى الإقرار بأن هؤلاء هم أصل الحكاية، وأنهم أصحاب الأرض الحقيقيون، وأن من بقي منهم في أرضه لم يحفظ إرثه وتاريخه فحسب، بل ظل حتى اليوم يقف رمحاً يؤرق الصهاينة بكل أنواعهم، يساريين ويمينيين، متدينين وعلمانيين، شرقيين وغربيين. ولم يخرج من بين هؤلاء إلا قلة تيقّنت من أن كيانهم مصطنع، وأن نظامهم عنصري، وأن مؤسساتهم قهرية، وأن دولتهم لن تعيش مدى العمر. وبعض هؤلاء غادروا الكيان إلى حيث يستعيدون حريتهم، بعدما غسلوا عقولهم وأجسادهم من آثار مجرمي العصر.
اليوم، بيننا قلة تريد بقاء إسرائيل. وبين أبناء الأرض نفسها قلة قليلة جداً تريد بقاء هذا الكيان. ومع انتصارات المقاومة الحقيقية والناصعة في لبنان وفلسطين، بات أمل هؤلاء أكبر، وصار صوتهم أعلى، وأصبح تحديهم للاحتلال ومؤسساته أكبر.
لكن، ويا للأسف، يبقى بيننا، نحن العرب أبناء دول الطوق، من فلسطينيين ولبنانيين وأردنيين وسوريين ومصريين، من يمنح نفسه حق تصنيف من هو وطني ومن هو خائن من أهل الأرض الذين صمدوا وظلوا يحفظون أمكنة وأسماء وتاريخاً. وهذا ما يحصل الآن مع الفنان محمد بكري.
محمد بكري فلسطيني ولد بعد النكبة. كبر وسط الحراب الإسرائيلية. عاش في بلدة غير بلدته الأصلية. تعلّم وكبر وتزوج وأنجب وعمل في كل صنوف الحياة هناك. وجد ضالّته في الفن، وشارك بمستويات مختلفة في السجال حول المصير. أخطأ أحياناً، لكنه لم يكن لحظة في قلب المشروع الصهيوني، ولا إلى جانبه، ولا متحفظاً عن نقده، بأعماله وفنه وكلامه. وعندما وجهت الدعوة إليه للاحتفاء به فناناً فلسطينياً وعربياً في لبنان، إنما كان الأمر تحية، ولو متاخرة، الى صنف قاوم على طريقته. عندما يخطئ يحاسبه فقط، أهل الأرض نفسها، وليس من يقف منتظراً عند حافة النهر.
وعندما يصيب نصفّق له جميعاً، ونشجعه على المضيّ في حفظ ذاكرة المكان وتاريخه، ولا نريد منه، كما من أبناء هذه المناطق أن يكلف نفسه مهمة أكبر منه بكثير.
نحن، الذين نرفع شعار المقاومة سبيلاً وحيداً لإنهاء هذا الكيان البغيض، تعلمنا الكثير من تجارب الأقربين والأبعدين. ونعرف أن أساس أي معركة تحرير يتطلب وجود شعب في هذه الأرض. وما فعله الذين صمدوا في مناطق الـ 48 منذ سبعين عاماً الى اليوم هو أفضل مقاومة. وجيد أن من بقي لم يستمع إلى نداءات قادة العرب المتآمرين مع الصهاينة، وإلى خطابات مناضلين مراهقين لم يتعرفوا إلى أصول المقاومة الحقيقية. ولذلك، حريّ بمن يريد لهذه الأرض أن تعود إلى أهلها، أن يتواضع قليلاً، وأن يحدد لنفسه دوره المباشر في عملية تاريخية من هذا النوع. وإذا أراد محاسبة من بقي تحت الاحتلال، فما عليه إلا التعرف إلى نضالات الشعوب التي عاشت عقوداً من الزمن، بل مئات من السنين، في ظل سيطرة إمبراطورية غاصبة.
من الأفضل للجميع أن يتواضعوا، ومعركة محمد بكري لا يمكن أن تكون إلا مع المؤسسة الصهيونية التي تريد قهره، وتتمنّى أن يخاف محمد بكري فلا يعود إلى أرضه، وتبحث عن ألف طريقة لطرده كما بقية أهله، لتأتي بمجنون من أقاصي الأرض يعيش مكانه. وهي حال بقية أهلنا في الـ 48.
عنوان واحد لا يمكن التسامح فيه مع أحد، لا مع فلسطينيي الداخل أو الخارج، ولا مع بقية العرب. هو التعامل المباشر مع جيش العدو وأجهزته الأمنية ومخابراته الاقتصادية والعلمية والمالية، أو مع برامجه الثقافية التي تريد جعل العدو كائناً حضارياً. ومن يفعل ذلك، يكُن خائناً مثله مثل كل من قدم إلى العدو خدمات في هذا البلد أو ذلك.
نصيحة لكل من يريد الخير لفلسطين، ويعيش حقيقة أننا ذاهبون إليها قريباً، فاتحين، مستعيدين الحق بقوة السلاح كما أخذ، عليه أن يترك أبناء فلسطين وشأنهم،
اتركوهم، يشربون ويزرعون ويركضون. اتركوهم، ينامون ويبكون ويصحون ويصرخون في جنبات بيوتهم.
اتركوهم، يقومون ويقعدون في دساكرهم.
اتركوهم، يسكنون العمارات الجديدة أو القرى الباقية. يسرحون في حدائق عامة واسعة ومرتبة أو في حقول والتين والصبار.
اتركوهم عند الشاطئ، يصيدون وهماً أو حلماً أو سمكة مسكينة.
دعوهم، يعملون بصمت وصبر، ولا ينسون تسمية أولادهم بأسماء الآباء والأجداد، يتنادون بلغتهم ولهجتهم. دعوهم، يشتمون ويبدعون بلغتهم وأعينهم وقلوبهم العربية.
دعوهم، يتحابّون ويتزوجون وينجبون الكثير من الأولاد والبنات، وليرسموا معهم، على أوراق أو جدران، صورهم، أو أي شيء من ذاكرة أو واقع أو أحلام.
هؤلاء، لهم الأرض والهواء، لهم الشاطئ والبحر، لهم الطيور والحصى وأنين المرضى، ولهم صمت القبور!