ما إن جرى الإعلان عن زيارات لعدد من قيادات أحزاب قوى "14 آذار" السابقة ولبعض شخصيّاتها إلى المملكة العربيّة السُعوديّة، حتى سارع عدد من ناشطي وشخصيّات قوى "8 آذار" إلى الحديث عن "إستدعاءات" سُعوديّة لهؤلاء بهدف ترميم "14 آذار"، وعن "تعليمات" تقضي بإعادة تسعير المعركة السياسيّة والإعلاميّة ضُد "حزب الله"، وبمنع مُحاولات التطبيع بين لبنان وسوريا. فهل هذا صحيح؟.
بداية لا بُدّ من الإشارة إلى أنّه إذا كان صحيحًا بأنّ هذه الزيارات تزامنت مع تصويت لجنة العلاقات الخارجيّة في مجلس النواب الأميركي على مشروعي قانون يرميان إلى تشديد العُقوبات المفروضة على "حزب الله"، فإنّ الأصحّ أنّ القرارات الأميركيّة الهادفة إلى تضييق الخناق على "الحزب" مُستمرّة منذ سنوات طويلة، وهي تصدر بشكل دَوري، وبالتالي، إنّ تزامن صُدور أي عُقوبات أميركيّة جديدة مع زيارات لمسؤولين لبنانيين إلى السعودية لا يعدو كونه مُجرّد مُصادفة زمنيّة لا أكثر، ولوّ أنّها قد تدخل في سياق المصلحة المُشتركة للأطراف المعنيّة.
وبالنسبة إلى النيّة السعودية بإعادة تسعير المُواجهة في لبنان، بين القوى المُؤيّدة أو المُتفاهمة معها على الأقلّ، وتلك المُناهضة للرياض والمُنضوية في تحالف إقليمي يشمل كلاً من إيران وسوريا، فإنّ هذه المُواجهة لم تتوقّف أصلاً لا على الصعيد المحلّي ولا على الصعيد الإقليمي، لتعود وتستعر من جديد! ومرور المُواجهة المذكورة بفترات هدوء نسبي، أو بفترات توتّر عال، مُرتبط بإعتبارات وظروف مختلفة، تكون مترابطة بين الداخل والخارج أحيانًا، ومُنفصلة أحيانًا أخرى. والسعودية التي تواجه مُحاولات مُستمرّة لضرب نفوذها الإقليمي ولتقويضه، وحتى لضربها بشكل مُباشر إقتصاديًا وعسكريًا من خلال مدّ مُعارضيها في اليمن بالمال والسلاح وكل الدعم اللُوجستي، ليست بوارد رفع الراية البيضاء، بل هي مُصمّمة على مُواصلة المُواجهة في كل الساحات التي لها فيها قواعد مُؤيّدة. وليس بسرّ أنّ الإقتراب من فترة الحلول لكثير من الملفّات المُتعثّرة إقليميًا، من سوريا إلى اليمن، من شأنه أن يرفع من حدّة التوتّر بين الخُصوم السياسيّين، وفي طليعتهم السعودية ومن معها في مُقابل إيران ومن معها، وكذلك من عمليّات "شدّ الحبال" المُتبادل، تحصينًا لشروط التفاوض المُستقبلي، أكان بأسلوب مُباشر أو غير مُباشر. وعلى المُستوى المحلّي، ليس بسرّ أيضًا أنّ الإقتراب أكثر فأكثر من موعد إجراء الإنتخابات النيابيّة في أيّار 2018-كما هو مُفترض، من شأنه أن يدفع القوى السياسيّة المعنيّة كافة إلى العودة إلى خطابات تصعيديّة تُحفّز المُناصرين وتشدّ عصبهم، وتجذب الأشخاص المُؤيّدين لهذا الشعار أو ذاك.
إلى زيارات عدد من قادة قوى "14 آذار" إلى السعودية حاليًا، والتي يُنتظر أن تتوسّع لتشمل قادة ومسؤولين آخرين في الساعات والأيّام القليلة المُقبلة، فهي تندرج في سياق تقديم الدعم السعودي المُتواصل لهؤلاء، علمًا أنّ الخطوط العريضة لسياساتهم لم تتغيّر في السنوات الماضية، وإن كانت معاركهم السياسيّة مع "حزب الله" والنظامين السوري والإيراني، شهدت هبّات باردة وأخرى ساخنة، تبعًا لإعتبارات محلّية وإقليميّة مُتداخلة، كانت تستوجب التهدئة في بعض الأحيان لتمرير إستحقاقات داخلية أو تقيّدًا بتسويات مُحدّدة في لبنان والمنطقة. وفي المرحلة الأخيرة كان التوجّه هو نحو التصعيد السياسي والإعلامي، حتى قبل أي تحريض سعوديّ مُحتمل، وذلك بعد مُحاولات واضحة من جانب قوى "8 آذار" لفرض مشيئتها السياسية على الواقع اللبناني، مُتسلّحة ببقاء النظام السوري، وبتغيّر موازين القوى الإقليمي، وهو ما دفع قيادات وشخصيّات قوى "14 آذار" السابقة إلى العودة إلى لغّة أكثر تشدّدًا، في مُحاولة لإيقاف هذا التوجّه وإفشاله في مهده وقبل تماديه.
في الخلاصة، صحيح أنّ حركة "14 آذار" إنتهت كجبهة سياسية وحزبيّة مُنضوية في إطار واحد ومُوحّد منذ فترة طويلة، لكنّ الأصحّ أنّها مُستمرّة كمبادئ وشعارات، وصحيح أنّ "14 آذار" لم تعد موجودة كقوة مُتماسكة بالجُملة، لكنّ حُضورها لا يزال مُستمرًّا بالمُفرّق-إذا جاز التعبير. وطالما أنّ الصراع الإقليمي بأبعاده كافة مُستمرّ بين السعودية وإيران، فإنّ إرتداداته ستبقى قائمة في لبنان بنسب مُتفاوتة، وذلك عبر "إستدعاءات" و"تعليمات" أو من دونها، وما ينطبق على قيادات "14 آذار" السابقة يسري أيضًا وبشكل أكثر فعاليّة على قيادات قوى "8 آذار"! وهذا بالتأكيد ليس بدليل عافية للبنان، كونه يقسم الشعب اللبناني من جهة، ويضع لبنان ككل في صلب صراع إقليمي – دولي يبدأ بالنُفوذ والمصالح، ويمرّ بالسياسات والعقائد، ولا ينتهي عند الإنقسام المذهبي والفقهي...