في الخطابين اللذين ألقاهما لمناسبة ذكرى عاشوراء، حرص الأمين العام لـ"حزب الله" السيد حسن نصرالله على تغليب مناخ "التهدئة" على ما عداه في رسائله الداخلية، حيث كانت دعوته إلى الحفاظ على الاستقرار والمناخ الإيجابي العام والتلاقي بين القوى السياسية واستمرار عمل الحكومة وتفعيل مجلس النواب، بخلاف تلك الخارجية التي رأى البعض أنّه قاربها بمنطق "المنتصر" و"الغالب".
لكن، وبموازاة هذا الحرص، كان لافتًا إصرار السيد نصرالله على تسمية المملكة العربية السعودية بالاسم عند حثّه القوى السياسية لعدم السماح لـ"أحد" بأخذ لبنان إلى مواجهات داخلية، واصفًا ذلك بأنّه سيكون بمثابة "مغامرة غير محسوبة النتائج وغير مدروسة النتائج"، بل "مغامرة فاشلة ونتائجها فاشلة".
فماذا تعني مثل هذه الانتقادات، في ظلّ الجوّ العام المسيطر على البلاد، وخصوصًا في الأيام الأخيرة؟ وإلى أيّ حدّ يمكن أن تخدم عمليًا الاستقرار السياسي؟.
خطاب غير معزول
صحيحٌ أنّها ليست المرّة الأولى التي يسمّي فيها الأمين العام لـ"حزب الله" المملكة العربية السعودية بالاسم في سياق خطاباته، بل إنّ خطاباته قبل فترة كانت تتمّ على وقع شعارٍ مثيرٍ للجدل ألا وهو "الموت لآل سعود"، وصحيحٌ أنّ المواجهة بين الحزب، وإيران من خلفه، من جهة والسعودية من جهة ثانية، لم تنتهِ فصولاً بعد، إلا أنّ الصحيح أيضًا أنّ التسوية السياسيّة التي تمّ التوصّل إليها وأفضت لانتخاب العماد ميشال عون رئيسًا للجمهورية وتسمية سعد الحريري رئيسًا للحكومة، وقيل أنّ السعودية وإيران بالتحديد لعبتا دورًا أساسيًا فيها، غيّرت الكثير من قواعد اللعبة، وقلّصت من حجم الاشتباك، العلنيّ على الأقلّ، بين الجانبين.
انطلاقاً من ذلك، فإنّ حديث السيد نصرالله اليوم عن السعودية بهذا الشكل الصريح والواضح لم يأتِ من العدم، وهناك من يربطه في هذه النقطة بالتحديد بما يُحكى، مباشرةً أو مواربةً، عن ترنّحٍ أو اهتزازٍ للتسوية، تعدّدت وتنوّعت مؤشراته خلال الأيام القليلة الماضية، ولعلّ ذروتها تمثّلت في الحركة السعودية المستجدّة باتجاه لبنان، واللقاءات التي احتضنتها العاصمة السعودية مع عددٍ من الأفرقاء، بينهم رئيس حزب "القوات اللبنانية" سمير جعجع ورئيس حزب "الكتائب" النائب سامي الجميل، والتي أتت للمفارقة بعد بروز خلافاتٍ بين مكوّنات الائتلاف الحكومي، ولا سيما "تيار المستقبل" و"التيار الوطني الحر"، رأى كثيرون أنّها ضُخّمت لغايةٍ في نفس يعقوب، وكلّها عوامل أوحت أنّ هناك شيئًا ما يُدبَّر في الكواليس، خصوصًا أنّه ترافق مع انتشار شائعات تروّج لفرضيّة سقوط الحكومة الحالية، إما عبر استقالة رئيسها الطوعيّة، أو عبر إسقاطها بضربةٍ قاضيةٍ من هنا أو هنالك.
من هنا، يمكن القول أنّ خطاب السيد نصرالله ليس معزولاً بأيّ شكلٍ من الأشكال عن الجو العام الذي بدأ يتسرّب عن مواجهة سعودية جديدة يتمّ التحضير لها من البوابة اللبنانية، خصوصًا بعدما شعرت السعودية بأنّ رهان حلفائها في لبنان على ضرب "حزب الله" من خلال وضع العصيّ في دواليب علاقة "التيار الوطني الحر" به قد خاب. وبالتالي، فإنّ الأمين العام لـ"حزب الله" أراد التحذير من الذهاب إلى النهاية في هذه المواجهة التي تضرّ الجميع، وإن اعتقد البعض أنّها قد تنفعه انتخابياً، من خلال استمالة الشارع المعبَّأ مذهبيًا بما يكفي ليرحّب بأيّ تصعيدٍ من دون إدراك عواقبه على أكثر من خطّ وأكثر من مستوى.
من يقود لعدم الاستقرار؟
برأي مؤيّدي "حزب الله" والدائرين في فلكه، فإنّ كلام السيد نصرالله عن السعودية لم يُقصَد منه الإساءة لأحد، بقدر ما قُصِد منه تحصين الواقع اللبناني، عبر التحذير من انجرار أفرقاء الداخل لأيّ مغامرةٍ غير محسوبة، قد تطيح بالحكومة، ومعها بالاستقرار اللبناني، الذي يفترض العمل في هذه المرحلة على تمتينه، لا العبث به، مهما كانت الظروف، وتحت أيّ عنوان، وهو ما كان السيد نصرالله واضحًا في التأكيد عليه خلال خطابه في ليلة العاشر من محرّم، حيث كان تشديده على تفعيل عمل المؤسسات، بدلاً من تقطيع الوقت بالتي هي أحسن حتى موعد الانتخابات النيابية.
ولكن، في مقابل هذا الرأي، هناك رأي آخر ينطلق منه حلفاء السعودية في لبنان، الذين يصرّون على وضع اللقاءات التي تحصل في المملكة في الإطار الروتيني والطبيعي، ويعتبرون أنّها حُمّلت أكثر بكثير ممّا تحمل، علمًا أنّ مثل هذه اللقاءات دوريّة، وتأتي في إطار استعراض المواقف وتبادل الآراء، فضلاً عن كون زيارة النائب سامي الجميل على سبيل المثال زيارة "تعارف" بالنسبة للقيادة السعودية الجديدة. ولا يبدو بالنسبة لهؤلاء الحديث عن أجندات ومخططات في خلفيّة هذه اللقاءات واقعيًا، علمًا أنّ العكس هو الصحيح، خصوصًا في ضوء المساعي الحثيثة للمحور الآخر لفرض التطبيع مع سوريا كأمر واقع لا لبس فيه، ووضع الحكومة رهينة له بشكلٍ أو بآخر.
من هنا، لا يتردّد هؤلاء في القول أنّ السيد نصرالله هو الذي يجرّ لبنان إلى عدم الاستقرار من خلال هذا الكلام، خصوصًا في ضوء التجارب السابقة، وما سُمّيت بالعقوبات الخليجية ولا سيما السعودية على لبنان بسبب مواقف "حزب الله" تحديدًا التي عرّضت العلاقات اللبنانية السعودية في وقتٍ سابق للضرر الذي تعافت منه جزئيًا لا كليًا مع انطلاقة العهد الجديد. وبرأيهم، فإنّه إذا كان صحيحًا أنّ السعودية تعدّ لشيء ما، فإنّ الأولى بالسيد نصرالله عدم توفير المقوّمات الموضوعية للتوتير واللااستقرار كما فعل، خصوصًا أنّ أيّ تداعياتٍ لمثل هذا الكلام قد تقود إلى المجهول الذي لن يطيح بالحكومة فحسب، بل بالتضامن الوطنيّ ككلّ.
استقرار الحدّ الأدنى...
كالعادة، اختلفت قراءات الخطاب الأخير للأمين العام لـ"حزب الله"، فهناك من رأى فيه إيجابيّة وتجاوزًا لكلّ نقاط الخلاف، الهامشية منها والاستراتيجية، وهناك من لم يرَ فيه سوى الهجوم على السعودية، ولو أتى على الهامش، ليستنتج أنّه يقود البلاد نحو المزيد من التصعيد.
لكن، بين هذا وذاك، كان واضحًا خلف سطور خطاب السيد نصرالله، كما خصومه على الساحة الداخلية وأولهم "تيار المستقبل"، أنّ التصعيد، ولو كان مطروحًا على الطاولة، إلا أنّه يبقى مؤجّلًا، بالحدّ الأدنى حتى ما قبل الانتخابات النيابية.
وحتى ذلك الحين، فإنّ "استقرار الحدّ الأدنى" سيكون هو السائد، ومن مقوّماته من دون شكّ صمود الحكومة، التي لا مصلحة لأحد، وحتى إشعارٍ آخر، بإسقاطها مهما قيل ويُقال...