عند كل جريمة تهزّ الرأي العام الأميركي ومعه الدولي تحضر أسئلة عديدة عن خلفياتها وأصولها ويكثر الحديث بالحالة الأميركية عن مجرم فاقد للسويّة، أي «يتمتع» باختلال عقلي أو نفسي، في وقت تعتبر هذه الحوادث في دول أخرى أقل نسبياً منها الى تلك التي تشهدها الولايات المتحدة الأميركية بين فترة وأخرى. فالحوادث أو الجرائم التي تحصل في دول أوروبية غالباً ما تجنح نحو كونها بالأساس واقعة ضمن خطط لعمليات إرهابية مدروسية تنفذ فيها أشكال القتل بأنواعه كلها، أكان بالرصاص أو الدهس أو التفجير المباشر. الولايات المتحدة الأميركية التي تشهد ارتفاعاً في معدلات البطالة ومأزقاً جدياً في تكويناتها الاجتماعية، تدرك أنها أمام مرحلة دقيقة تأتي هذه المرة من داخل النسيج الأميركي، وبالتحديد هي مسألة التهديد الذي يشكّله عودة الاشتباك العنصري بين السود والبيض عند كل محطة، ولو كانت سياسية، وقد برز هذا الأمر منذ انتخاب الرئيس باراك أوباما رئيساً للولايات المتحدة الأميركية في جزء منه محاولة لتهدئة الشارع الأسود المحتقن، وحينها لم تكن مصادفة اختيار الرئيس الأميركي الأسود الأول.
لكن، ومع تلك المرحلة أيضاً برزت بعض الحوادث الدامية بين الشرطة والسود، والعكس وباتت مراكز الأبحاث الأميركية تتحدّث عن مشكلة جدّية قد لا تتخطّاها بعض الإجراءات أو التعيينات. وأن البطالة باتت مادة أساسية من ركائز هذا التوتر الذي بات يهدّد الولايات المتحدة جدّياً، يشعر الأميركيون اليوم بالامتنان بعد حادثة لاس فيغاس الأخيرة والتي أودت بحياة أكثر من عشرين أميركياً مع عدد كبير من الجرحى بأن العملية أولاً ليست عملية إرهابية، وثانياً أن منفذ العملية ليس من «الأميركيين السود»، وإلا لكانت الأمور ستكون أسوأ بكثير مما باتت عليه تداعيات الجريمة، خصوصاً أن الرئيس الأميركي دونالد ترامب استفزّ السود منذ لحظة تسلّمه الحكم. وهم الذين كانوا قد اعتبروه خصماً أو على الاقل تقبّلوا عنصريته المبطنة تجاههم بصعوبة..
المشكلة الأساسية هنا، هي في الدستور الأميركي الذي يُجيز للأميركيين حمل السلاح حتى، ولو كان سلاحاً ثقيلاً، أي أنه بإمكان أي أميركي شراء أي نوع من الأسلحة واقتنائها والاحتفاظ بها داخل المنزل من دون أن يرتب هذا عليه أي مخالفة قانونية لأن رخص السلاح متوفرة. وهذا ما جعل كل بيت أميركي يقتني السلاح تعبيراً عن إمكانية اللجوء للدفاع عن النفس في أي هجمة ممكنة من أي عدو ليصبح السؤال هنا: مَن هو العدو؟ هل هو العدو المحليّ أي المواطن الأميركي ضد الأميركي أو الأسود والأبيض؟ يحاول الحقوقيون الأميركيون التوصل لنتيجة جدية تفضي الى إلغاء المادة التي تجيز للأميركيين حمل السلاح واقتنائه انطلاقاً من عبثية فكرة تسهيل امتلاكه، وما وراء ذلك من تسهيلات لتجارة السلاح وبالعودة إلى هذا المفهوم فإن سوق السلاح الأميركي على صعيد مساعي الدولة لإيجاد تصريف مناسب هو من أهم وأكبر قطاعات الإنتاج الأميركية. ولطالما ركّزت واشنطن على ضرورة إيجاد السوق المناسب، وكان للعرب والخليج النصيب الأكبر وصفقات السلاح الكبرى تجري بين الدول العربية والأميركيين بتجديد عقود سنوية ومنها ما هو أبعد من ذلك يصل لحد عقد من الزمن أي كل عشر سنوات بصفقات ضخمة وتاريخية.
القلق الأميركي من انتشار السلاح النووي في هذا العالم يبدو هنا أحد المفارقات، فكيف يمكن لهذا الكمّ من القلق أن يقنع الشعوب التي تجد في واشنطن مرجعية لإدارة السلام في وقت تقدّم لهم مجتمعاً محلياً قائماً أصلا على العنف وتشريع ما يعزّز ذلك؟ وهنا تأتي مسألة الهاجس الأميركي من امتلاك بعض الدول للسلاح النووي وملاحقة كل من كوريا الشمالية وإيران من أجل حماية السلم الدولي في وقت تبرز اهتماماً بالغاً في كل ما يتعلّق بالسلاح ومندرجاته ولا تعرف حتى اللحظة كيفية التوصل لمخرج يطمئن الأميركيين بأن مسألة تعديل الدستور الأميركي بتصويت عادل بالكونغرس هو أمر ممكن.
تعرف واشنطن أن الولايات التي تحكم بعضها حكماً ذاتياً بكل ما للكلمة من معنى، تقطن فيها أصوليات عرقية متعددة، جزء منها يرفض التنازل عن هذا الحق، وأن فكرة تعديل هذا يشكل بالنسبة للسلطات تحدياً كبيراً. هذا عدا تجارة السلاح الرائجة «السوق السوداء» التي تعتبر عائداً منتجاً بالنسبة لشريحة لا يُستهان بها من الأميركيين من دون أن تكشف عن ذلك وسائل الاعلام التي تسعى دوماً الى اظهار سلمية المجتمع الأميركي. وهو يبدو اليوم بأكثر محطات العنف تأصلاً.
حادثة لاس فيغاس، بالنسبة للمراقبين، هي من أخطر حوادث الولايات المتحدة الأميركية بعد حادثة الحادي عشر من ايلول، من حيث عدد الضحايا الذي يعتبر كبيراً بالنسبة لحادث فردي غير إرهابي. وهو ما يعني أن المجتمع الأميركي يعيش وسط بركان مهدّد بالانفجار في أي لحظة نتيجة مفاهيم خاطئة عن إدارة الأمن والسلم من داخل الولايات المتحدة خروجاً منها الى المجتمع الدولي وإدارة أزماته.
تثبت الولايات المتحدة الأميركية يوماً بعد الآخر أنها مجتمع قائم بحدّ ذاته على السلاح والتسلّح وتبرير مفاهيمه لم تعُد تساعد السلم المحلي وبات المطلوب قبل الشروع بعقوبات على دول أو منظمات عدة في العالم، مثل إيران وكوريا الشمالية كحزب الله وغير حزب الله، البحث عمّن يستطيع سحب السلاح من يد كل مواطن أميركي.