النبرة العالية حيال النزاع مع إسرائيل والتي طَبَعت الخطابَين الأخيرين للأمين العام لـ«حزب الله» السيد حسن نصرالله في مناسبة عاشوراء، كانت محطّ تقويم ومتابعة لدى الأوساط السياسية اللبنانية والعواصم الخارجية على حدّ سواء، وخصوصاً حول الخلفية الحقيقية لما إعتُبِر تصعيداً في موقف «حزب الله».
وعلى رغم اعتبار البعض (وهم في معظمهم لبنانيّون وديبلوماسيون عرب مناهضون لإيران) بأنّ كلام نصرالله يؤشر الى وجود مخاوف جدّية من شنّ إسرائيل حرباً خاطفة، ولكن عنيفة، على «حزب الله» في لبنان استناداً الى معطيات ومؤشرات عدّة، إلّا أنّ العواصم الغربية لم ترَ جديداً فعلياً في مواقف نصرالله سوى تكرار لمواقف سابقة ولكن بعبارات ومفردات أكثر قوة، وبالتالي إدراج هذين الخطابين في اطار الحرب النفسية الدائرة منذ فترة بين إسرائيل و«حزب الله» لا اكثر.
صحيح أنّ إسرائيل نظّمت مناورة في المنطقة القريبة من الحدود مع لبنان، كانت الاضخم منذ اكثر من عشرين عاماً، وكانت تحاكي مختلف السيناريوهات في حال نشوب حرب مع «حزب الله»، إلّا أنّ الواقع السيّئ لسلاح المشاة الإسرائيلي لا يجعله قادراً على خوض حرب برّية نتائجها غير مضمونة قد تؤدّي الى خسارة ثانية من غير المسموح حصولها، وبالتالي فإنّ هذه المناورة إضافةً الى التهديدات الإسرائيلية إنما تأتي في إطار الضغط المعنوي والنفسي على اللبنانيين.
كما أنّه بات من الصعب، لا بل المستحيل، الشروع في حرب بهذا المستوى من دون الأخذ في الاعتبار الحضور الروسي. وصحيح أنّ رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو زار موسكو مرات عدة للبحث في موضوع «حزب الله»، لكنه عاد بضمانات روسية وضوابط لحرية الحركة العسكرية الإسرائيلية والتي اقتصرت حتى الآن على غارات في سوريا ولكن وفق معايير محدّدة لها علاقة مباشرة بأمن إسرائيل، لكنّ لهذه الحرب النفسية الدائرة والتي بدأت بها إسرائيل أسبابها وأهدافها.
ففي سوريا بات معلناً أنّ ما نشهده الآن هو انجاز الترتيبات الميدانية لإغلاق ملف الحرب المفتوحة والشروع في إنتاج واقع جيوسياسي جديد يلحظ نفوذ ومصالح موسكو وواشنطن والقوى الإقليمية الكبرى، ولإسرائيل حصة في ذلك.
فالجبهة الواحدة التي تحدّث عنها «حزب الله» في عزّ الحرب الدائرة في سوريا والممتدة من الجولان الى الناقورة في جنوب لبنان، تمّ قطعها مجدداً من خلال ترتيبات مناطق خفض التوتر والتي شملت الجولان وأفرزت منطقةً خاليةً من وجود «حزب الله» أو الإيرانيين بعمق 30 كلم وبضمان روسيا. وصحيح أنّ إسرائيل اعترضت لأنّها طلبت عمقاً أكبر، لكنّ ما جرى أعطى ضمان تثبيت الهدوء وإخراج هذا الجزء من الحدود من الواقع المضطرب أو المفاجآت المفتوحة.
وبقيَ الجزء الحدودي الفاصل مع لبنان والذي تسعى إسرائيل بالتفاهم مع واشنطن الى إدخاله في اطار الصفقة السورية، وترتيب كل المنطقة وفق النظام الجديد والذي يشمل لبنان أيضاً.
وقبل تجديد مجلس الامن الدولي لعمل قوات الطوارئ الدولية في جنوب لبنان أواخر شهر آب الماضي، دارت مفاوضات صعبة بعدما رفعت واشنطن مشروعاً يقضي بتعديل مهمة قوات الطوارئ الدولية بحيث تصبح مهماتها أكبر وأوسع ومن دون أيّ قيود في إطار العمل على تطبيق القرار 1701، وذلك بأن يُزاد عديدها وأن تكون تشكيلاتها قتالية أكثر، وأن تعطى صلاحية المراقبة ودهم المنازل وتفتيشها لضمان تطبيق قرارات الأمم المتحدة.
يومها رفضت باريس انجرارَ مجلس الأمن الى هذا المشروع، معلِّلةً ذلك بالظرف وأنه سيؤدّي الى عكس مبتغاه، وكان أن نجحت باريس في إجهاض المشروع، خصوصاً أنها معنيّة مباشرة من خلال القوة الفرنسية المنضوية في قوات الامم المتحدة، ففي تلك المرحلة كان لبنان يستعدّ لمعارك تحرير جرود رأس بعلبك والقاع وعرسال من التنظيمات الإرهابية. لذلك وُضع الاقتراح الأميركي جانباً ربما في انتظار دنوّ الموعد المقبل للتمديد.
وفي أيلول الماضي، حمل ممثل الأمم المتحدة في لبنان عرضاً إسرائيلياً الى الحكومة اللبنانية مفاده استكمال ترسيم الخط الأزرق في ظلّ وجود 11 نقطة بقيت محطّ خلاف منذ نشوء الخط الأزرق، وأبدى الجانب اللبناني موافقته على ذلك، فحمل المسؤول الأممي جواب لبنان في انتظار انعقاد الجلسة التالية والتي تحصل مرة كل شهر.
ومن الواضح أنّ إسرائيل تسعى بالتفاهم مع واشنطن لإحداث تغيير جذري عند الحدود اللبنانية - الإسرائيلية، ما يؤدّي الى تأمينها نهائياً ووضعها تحت رقابة دولية وإزالة تأثير «حزب الله» عنها.
وبخلاف الزيارة التي كان قد قام بها قائد القيادة المركزية الأميركية الجنرال جوزف فوتل الى لبنان في 6 حزيران الماضي مستبقاً معارك الجرود، وهو الذي زار المنطقة برفقة قائد الجيش، فإنّ نائبَه الجنرال شارل براون حضر الى لبنان مُركِّزاً على مسألتين: قوات الطوارئ الدولية ومخيّم عين الحلوة.
في الزيارة الاولى لم يتطرّق فوتل لا من قريب ولا من بعيد الى «حزب الله» الذي شارك مباشرة في معارك جرود عرسال وأجرى تنسيقاً، ولو بالحدّ الأدنى، مع الجيش اللبناني في معارك جرود رأس بعلبك والقاع. أما في الزيارة الثانية فكانت اجتماعاتُ براون مختلفة بعض الشيء حيث تطرّق الى «حزب الله» والوضع في الجنوب.
فصحيح أنّ الجنرال الأميركي لم يتردّد في إبداء الإعجاب الشديد للقيادة العسكرية بأداء الجيش اللبناني في معارك الجرود، لكنه أرفق ذلك بضرورة أن يكون السلطة الامنية الوحيدة على الارض.
فالتنظيم القتالي والتنسيق الناري الكثيف والمدروس الذي نفّذه الجيش في المعركة بشهادة «البعيد والقريب» والذي ارتكز في اساسه على الذخائر والاسلحة الممنوحة من المخازن العسكرية الأميركية، انتزع إعجاب القيادة العسكرية الأميركية والتي كانت تراقب مسار المعركة عن كثب من خلال المراقبة الجوية.
لكنّ الجنرال براون والذي تحدث امام رئيس الجمهورية بأنه سيزور الجنوب في اليوم التالي، اشار، ولو بطريقة عَرَضية، الى وجود مواقف لبعض المسؤولين في «حزب الله» تؤدّي لإحداث ردات فعل سلبية في الكونغرس، وهو ما قد يؤثر سلباً في سعينا لاستمرار التعاون العسكري مع لبنان وهذه مسألة تتمسّك بها بقوة القيادة العسكرية الأميركية، وأولوية دعمنا الجيش منفصلة عن أيّ مسألة اخرى.
كلام الجنرال الأميركي أتى بطريقة استطرادية، ولم يأتِ أبداً في اطار الشرط أو ما شابه، وجاء جواب رئيس الجمهورية «أنّ الاستقرار الامني اساسي وهو يشكل إقتناعاً راسخاً لدى كل الاطراف في لبنان.
أما في الجنوب فإنّ أيّ عمل عدائي لم يحصل من جهة لبنان، لا بل على العكس، فإنّ إسرائيل تستمرّ في انتهاكاتها الامنية، مرة أمنياً ومرة أُخرى ما سُجّل في اجواء صيدا، وأخيراً وليس آخراً، إستخدام الأجواء اللبنانية لقصف مواقع في الداخل السوري».
والواضح أنّ كلام الجنرال الأميركي يشكّل جانباً اضافياً، ولو غير معلن، من جوانب حرب الضغوط الحاصلة على «حزب الله».
ويضع البعض ايضاً في السياق نفسه التصعيد الحاصل من السعودية التي تتولّى إعادة استنهاض وتشكيل جبهة لبنانية داخلية في هذا الاطار. لكنّ الحرب النفسية من خلال تصعيد الضغط شيء، وتحضير الاجواء لحرب عسكرية جدّية شيء آخر.
فالعاصمة الأميركية تنتظر زيارة جديدة لقائد الجيش العماد جوزف عون، والأهم انه سيُجرى إبلاغه رسمياً رفع الحظر عن تزويد الجيش اللبناني بعض انواع الاسلحة التي تُعتبر نوعية مثل صواريخ «تاو».
والاهم الزيارة التي قام بها المدير العام للأمن العام اللواء عباس ابراهيم الى واشنطن أخيراً بدعوة من المسؤولين الامنيين الاميركيين الكبار واستمرّت اسبوعاً . فالأمن العام تحت رئاسة ابراهيم أثبت نجاحاً باهراً في محاربة الارهاب بالتنسيق مع بقية الاجهزة الامنية، اضافة الى مرونة وحنكة في التأقلم والعمل مع معطيات الساحة اللبنانية المعقّدة.
والأهمّ جولات التفاوض المضنية، ولكن الناجحة، وسط عوامل صعبة، ما كانت لتؤدّي نتيجتها لولا هامش الثقة الذي يتمتّع به من جميع الاطراف وفي طليعتهم «حزب الله».
زيارة اللواء ابراهيم لواشنطن ولقاءاته المتعددة بقيت بعيدة من الإعلام ولكن من المنطقي إدراجها في الاطار العام الحاصل ويمكن أن تشكل بدايةً لمسار صعب وطويل سيجد له نهاية في آخر المطاف.