لقد بات مؤكداً أن منطقة جبل محسن في طرابلس ذات الغالبية العلوية، لم تعد كسابق عهدها ككتلة ناخبة وازنة تصب غالبية أصواتها لمصلحة فريق أو إتجاه سياسي معيّن. فالمنطقة تُركت لقدرها، وغُيّب صوتها عمداً عن البرلمان، والأنكى أن قرار إلغاء الحضور العلوي في المجلس النيابي، جاء بعد مصالحةٍ عقدها الرئيس سعد الحريري مع النائب السابق علي عيد في طرابلس في العام 2008، اعترف بنتيجتها الأول للثاني بدوره كمرجعية أولى في "الجبل". وقد جاءت تلك المصالحة بهدف طيّ صفحة العنف الدامي بين الطرابلسيين، والتي تعود بدايتها إلى أوائل ثمانينيات القرن الفائت، إثر حوادث الأخوان المسلمين في سورية، والتي تكررت في "سيناريو" مماثل خلال جولة العنف الواحدة والعشرين التي شهدتها الفيحاء أخيراَ، كإحدى أسوأ نتائج الحرب على الجارة الأقرب وإرتداداتها على لبنان.
ولكن بعد اعتراف الحريري هذا بأشهر قليلة، واستضافته الأمين العام للحزب العربي الديموقراطي رفعت عيد على إحدى الموائد الرمضانية في قريطم لتعزيز اللحمة بين أبناء الوطن الواحد، كما كان يشدد رئيس الحكومة، كان الاختبار في الانتخابات النيابية في العام 2009. يومها نفض الحريري يده من المصالحة ولحس توقيعه، وعاد إلى نهجه الأحادي والإلغائي، رافضاً إيصال صوت "الجبل" إلى الندوة البرلمانية، ومتبنيّاً ترشيح دمىٍ انتخابية بيده، يقتصر تمثيلها على مئات أصوات العلويين في طرابلس وعكار في أحسن الأحوال. وفعل الحريري ذلك تحت ذريعة واهية عبر العودة إلى غياهب الماضي، ونبش سجلات جولات الاقتتال بين باب التبانة وجبل محسن، الأمر الذي جعل أبناء الجبل يشعرون وكأنهم جالية غريبة في مدينتهم.
وجاءت الطامة الكبرى مع اندلاع الحرب على سورية، فاقتصّ "المستقبل" وزبانيته من "أبناء محسن"، بسبب توجههم السياسي وانتمائهم الديني، وأشعل مجدداً فتيل جولات الاقتتال بين "الجبل" و"التبانة"، ولمع آندأك نجم المسؤول العسكري في "تيار الحريري" العقيد المتقاعد عميد حمود، من خلال تمويل المسلحين، ومدّهم لوجيستياً، وهذا باعتراف أمراء المحاور الذين سيقوا الى المحكمة العسكرية، ولم يصَر حتى الى التحقيق مع حمود، بسبب الغطاء السياسي الأزرق الذي يحظى به.
الى ذلك تعرّض أهالي "الجبل" لشتى أنواع الاعتداءات، وأقسى أنواع الإهانات قبل تفجيري مسجدي التقوى والسلام وبعدهما، ولم يجدوا في مدينتهم من ناصرٍ ينصرهم. ولنسلم بأن بعض أبناء "الجبل" متورطون بجريمة "التقوى والسلام"، فما هو ذنب الأبرياء منهم كي تُنتهك كرامتهم وسط صمت مقيت؟
ثم جاءت التسوية التي أفضت الى ولادة حكومة الرئيس تمام سلام، فإذا بأحد رموز الاقتتال في عاصمة الشمال اللواء أشرف ريفي، تُسند إليه وزارة العدل، وأُخرج رفعت عيد الملاحق قضائياً من المدينة، ما رفع أيضاً منسوب الإحباط والخيبة لدى العلويين في طرابلس، لاسيما أن عيد كان لا يزال يخضع للتحقيق في الجريمة، وكان لم يصدر بعد في حقه حكم قضائي مبرم. ناهيك عن أن السواد الأعظم من أهالي "الجبل" يعتبرون أن مسألة تجريم عيد سياسية وليست قضائية.
أيضا وأيضا استمر الإجحاف بحق "جبل محسن"، بعد تغييب أهله بالكامل عن المجلس البلدي والمجالس الاختيارية، ومصادرة قرارهم مجدداً من بعض الأفرقاء السياسيين اللاعبين على الساحة الطرابلسية.
اليوم وفي ضوء غياب المرجعية في "الجبل" تسعى مختلف القوى الموجودة في الشمال إلى تعزيز حضورها فيه، كالرئيس نجيب ميقاتي والتيار الوطني الحر، واللواء أشرف ريفي، إضافة الى تيار المرده الحاضر أصلاً في "بعل محسن" ويحظى باحترام أهاليه، الذين تلقوا الدعم اللوجستي والطبي من النائب سليمان فرنجية خلال جولات الاقتتال السابقة، وسواهم من الأفرقاء السياسيين.
هذا الواقع أسهم في ظهور طفرة من الطامحين الى الترشح الى الانتخابات النيابية، بلغ عددهم نحو أربعة عشر مرشحاً محتملاً حتى الساعة.
إلى ذلك لم يعد بوسع أبناء "الجبل" أن يعيشوا منعزلين عن محيطهم، فهم في حاجة للتفاعل اجتماعياً مع جيرانهم، لأسباب لها علاقة مباشرة بوضعهم المعيشي والحياتي، ولا شك أن هذا يفتح ثغرات لدخول بعض القوى السياسية الى "الجبل"، من خلال تأمين بعض الخدمات وفرص العمل لأبنائه.
لا ريب أن كل ما ورد أعلاه، أسهم في تشتت الصوت العلوي في طرابلس، لمصلحة الفريق المعادي لمحور المقاومة. والمسؤولية الكبرى يتحمّلها هذا المحور الذي يفتقد الى مشروع لتوحيد الأفرقاء المنضوين تحت لوائه، خصوصاً في طرابلس والشمال، ما أفقده المبادرة فيهما، وبذلك تمكّن خصومه من اختراق أهم قلاعه في الشمال.
ففي ضوء استمرار غياب المشروع المذكور، سيبقى هذا المحور وفي طليعته حزب الله عاجزاً عن استثمار أي انتصار على أرض الواقع السياسي، وسيبقى مضطراً إلى الذهاب الى تسويات مع فريق المستقبل، على غرار ما حدث غداة عدوان تموز 2006 وتحرير حلب في العام 2016.