يبدو لبنان مرتبطاً أكثرَ من أيّ وقتٍ مضى بالتطوّرات الإقليمية أو ما بات يُعرف بإعادة تشكيل الخريطة الجيوسياسية للشرق الأوسط.
فيما تدخلُ الحرب السورية مرحلتها الأخيرة، تكثر التوقّعات بأنّها ستكون المرحلة الأكثرَ تعقيداً وعنفاً وخطورة، طالما إنّ الصراع تحوّلَ الى تنافس مكشوف بين القوى الكبرى في سباقها نحو تكريس مدى نفوذها:
دير الزور وسعيُ واشنطن إلى تثبيت الخطوط الحمر أمام طهران.
إدلب والفرصة الممنوحة لتركيا لتوسيع نفوذها بعدما لزّمَتها موسكو ومِن خلفِها واشنطن، وبموافقة طهران، ترتيبَ الساحة والقضاءَ على «جبهة النصرة».
الجبهة الجنوبية وسعيُ إسرائيل إلى إبعاد إيران عن حدودها، وتكريس منطقة آمنة تحفَظ مصالحها الأمنية والعسكرية.
معبرُ التنف ومحافظة السويداء، حيث يَجري التحضير لمعارك ستندلع قريباً لتنظيف الجنوب. إضافة إلى السماء السورية المفتوحة جزئياً أمام الغارات الإسرائيلية، ولكنّ الأهمّ ازدياد نشاط طائرات «الدرونز» الأميركية والتي ستُضاعِف عملياتها في ظلّ مخاوف من أن تشمل السماءَ اللبنانية مستقبَلاً.
في هذه اللعبة الخطرة، يتواجه اللاعبون حتى ولو جَمعتهم التحالفات والتفاهمات العريضة. فترسيمُ الخطوط الحمر لا يُميّز بين صديقٍ وعدوّ، لذلك تشكّك موسكو كثيراً في وجود تواطؤ مستور بين الاميركيين و«داعش»، على أساس الاستفادة من الضعف والوهن العسكري الذي أصاب التنظيم الارهابي، وتوظيفه في إطار تحقيق مصالحهم.
وقيل إنّ اللواء في الجيش الروسي وكبير المستشارين الروس في سوريا فاليري اسابوف، والذي لقيَ مصرعَه بانفجار قذيفة بالقرب منه، لم يكن مقتله صدفة حربٍ بل عملية اغتيال، حيث تولّت جهة قادرة تزويدَ الإرهابيّين بإحداثية مكانه. وقيل إنّها كانت رسالة ميدانية اميركية من خلال التنظيمات الارهابية. واشتكت القيادة الروسية كثيراً من «الوئام» الذي يسود بعض مواقع التماس بين الاميركيين و»داعش»، وتحدّثت عن تناغمٍ غير مرئيّ بين قوات الطرفين.
وقيل أيضاً إنّ هنالك مَن ساعد الداعشيّين في اكتشاف ممرٍّ طويل لهم عبر الصحراء يمتدّ نحو 200 كلم من دير الزور وصولاً إلى بادية تدمر، حيث باغَتوا الجيش السوري و«حزب الله»، ما جَعلهم يخسرون عشرات العناصر.
وقيل أيضاً إنّ واشنطن قد لا تُمانع، لا بل قد ترى مصلحةً في تجميع فلولِ «داعش» في الصحراء لكي يبقى هؤلاء قادرين على إشغال الجيش السوري وحلفائه قبل القضاء الكامل عليهم.
إنّها لعبة الرسائل المعقّدة والخطرة، وهي تترافق مع الضغط الحاصل على إيران في إطار لعبة وضعِ ضوابط صارمة للدور الجديد الذي حظيَت به طهران في المنطقة التي باتت تُعرَف بالهلال الشيعي، أي العمل على تدجين النفوذ الايراني الجديد عبر ترسيم ضوابط صارمة له.
ويمكن إدراج الضغوط الحاصلة من الرئيس الاميركي دونالد ترامب على طهران عبر التلويح بإمكانية إلغاء الاتفاق النووي في الإطار نفسه.
لكن اللافت أنّ ترامب الذي ذهبَ بعيداً في تهديداته في هذا الإطار، يُلاقي معارضةً شاملة لأيّ خطوة متهوّرة، إنْ من معظم أعضاء الادارة الاميركية، أو حتى من الدول الاوروبية التي كانت شريكةً في هذا الملف.
فروسيا أبلغَت بأنّها ستنفّذ كلَّ التزاماتها أمام ايران في ما يخصّ البرنامج النووي، بما في ذلك برنامج توريد الأسلحة اعتباراً من سنة 2020، ومِن ضِمنها الدبابات والمدرّعات والمدافع والطائرات الحربية والمروحيات القتالية.
والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون تحادثَ مع نظيره الاميركي وأثارَ موقفَ بلاده المعارض لتعليق الاتفاق، خصوصاً مع وجود استثمارات فرنسية وأوروبية في إيران بدأت مع توقيع الاتفاق. أمّا في الداخل الأميركي فإنّ وزير الدفاع أو الرجل صاحب التأثير الأقوى في ملفات الشرق الأوسط صرّح بوضوح بأنّ الاتفاق يصبّ في مصلحة بلاده.
كما عارضَ رئيس هيئة الأركان المشتركة الأميركية الجنرال جوزف دانفورد الانسحاب من الاتفاق، ولكن من زاوية أخرى، حيث أبدى قلقاً من انعكاس إلغاء الاتفاق على وضعِ القوات الاميركية في العراق وسوريا وتعريضها لخطر الهجمات والاستهداف، كما أنه قد يقوّض الجهود الحاصلة لتطبيق الخطة الموضوعة حول مرحلة ما بعد «داعش».
في المقابل اعتبَر وزير الخارجية الاميركية السابق جون كيري، وهو الذي وقّع الاتّفاق، أنّ إلغاءَه لن يجعل طهران معزولةً عالمياً، بل واشنطن، مضيفاً بأنّ الامن القومي الاميركي ليس لعبة في يد ترامب، وذلك أنّ المحافظة على الاتفاق هي في الاساس محافظة على النفوذ الاميركي في أوروبا، وأنّ إلغاءَه سيؤدي الى تسليم السلطة في طهران الى التيارات المتشددة، وسيكون رسالةً لأيّ دولة تدرس التفاوض مع واشنطن.
وتعتقد الأوساط الديبلوماسية أنّ ترامب، أمام المعارضة الحاصلة في وجهه داخلياً وأوروبّياً، لا يبدو قادراً على المغامرة وتنفيذ ما يلوّح به، لكنّه في الوقت نفسه غير مستعدّ أيضاً لتجاوز المسألة من دون أن يتّخذ أيّ إجراء.
وحسب هذه الأوساط، فإنّ الرئيس الاميركي سيَعمد الى عدم توقيع التجديد على الاتفاق وإحالته الى الكونغرس الذي امامه مهلة تنتهي بعد ستّين يوماً من تاريخ الإحالة لأخذ قراره.
ولكنّه سيوصي أيضاً بالمزيد من البنود التي تؤدي الى مراقبةٍ أفضل وأكثر صرامة لتطبيق الاتفاق. ما يعني أنّ الاتفاق لن يجري المساسُ بجوهره، ولكنّه سيعطي البيت الابيض مهلة شهرين من الاستمرار في الضغط على أيران، وهو ما يخدم السياسة الأميركية الجاري تنفيذها في الشرق الاوسط، وما يعني أيضاً تزايُد الضغوط على ايران في المنطقة قبل ترسيم الأحجام في الخريطة الجيوسياسية الجاري رسمُها. ومن هنا يمكن قراءة التطوّرات في لبنان وتوَقُّع مرحلة صعبة.
وحين التقى وليّ العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان رئيسَ حزب «القوات اللبنانية» سمير جعجع ورئيسَ حزب الكتائب النائب سامي الجميّل، تحدّث بوضوح عن ضرورة مواجهة «حزب الله» المدعوم من الحكم في لبنان، وعدم فتحِ أبواب التواصل مع سوريا.
فالسعودية التي تدرك أنّ الحرب تكتب آخر فصولها في سوريا وأنّ الرئيس بشّار الأسد بقيَ على رأس نظامه، تعرف جيّداً أنّ إحدى نتائج هذه الحرب ستنعكس على الساحة اللبنانية. ومع عودة «حزب الله» ظافراً من سوريا، فإنّ الرياض ترى أنّ المرحلة المقبلة ستشهد وضعَ يدِ «حزب الله» بالكامل على السلطة في لبنان.
لذلك وطالما إنّ الأسابيع المقبلة ستكون مفتوحة أمام تصاعدِ الضغوط على إيران و»حزب الله» في سوريا بهدف وضعِ ضوابط لهذا الانتصار، فإنّ السعودية قد ترى في ملاقاة هذه الضغوط عبر ضغوط رديفة من خلال الساحة اللبنانية مسألةً قد تؤدّي إلى تثبيت المملكة لحضورها في لبنان.
ووفقَ هذه الحسابات، فإنّ الانتخابات النيابية قد تشكّل فرصةً لـ»حزب الله» للإمساك نهائياً بالبنية التحتية للنظام السياسي اللبناني، ما دفعَها إلى التحرّك والمواجهة في موازاة عقوبات ماليّة ستُنزلها واشنطن بـ»حزب الله» وبالقوى الداعمة له.
وفي دعوة الرياض إلى الجميّل مع جعجع إشارة استياء للأخير بسبب سعيِه في مرحلةٍ سابقة الى التقارب مع «حزب الله»، إضافةً إلى الرهان الخاطئ على العماد ميشال عون كرئيس للجمهورية. وفي زيارتَي جعجع والجميّل رسالة استياء الى الرئيس سعد الحريري الذي بات معلوماً الجوّ البارد، لا بل المكفهِرّ، الذي يسود بينه وبين السعودية، لكنّ الحريري سيتوجّه قريباً جداً الى المملكة للقاءِ وليّ العهد بدعوة من الأخير. والواضح أنّ كلّ الملفات ستُفتح، كونُها راكمت غيوماً في سماء العلاقة بينهما.
فالحريري سيستمع الى وجهةِ النظر السعودية، ولكن سيكون لديه وجهة نظر أوضح: لقد أخرجوني من السلطة في العام 2010 ولم أعد إليها إلّا بعد التسوية الرئاسية. صحيح أنّ الفريق الذي يتزعّمه «حزب الله» أصبح قوياً جداً، لكن هذا يعود في الدرجة الأولى إلى النتائج التي رست عليها الحرب السورية.
وإذا أردتم الذهابَ إلى المواجهة فإنّ تيار «المستقبل» مستعدّ، ولكنّ لذلك شروطاً ملزِمة وإلّا نكون كمن يذهب الى انتحارٍ جديد. فالمعركة الانتخابية تحتاج الى رأس مالٍ كبير وترتيباتٍ جدّية، فهل هذا متوافر؟ إذا كان الجواب نعم، فلنبدأ منذ الآن، أمّا إذا كان الجواب سلبياً، فدعونا نواجه بواقعية وألّا نضيفَ على خساراتنا فقدانَ رئاسة الحكومة من جديد.
وفي المقلب المسيحي، بدأت الحماوة ترتفع، خصوصاً بين «القوات اللبنانية» و«التيار الوطني الحر». فللمرّة الأولى هناك بيانات مباشرة، لكنّ المطّلعين يقولون إنّ الافتراق الذي حصَل بسبب الصراعات الإقليمية سيأخذ مساراً متدرّجاً، وهو محكومٌ بسقف مضبوط، على الأقلّ من الآن وحتى نهاية هذه السنة.
ولكن مع اقتراب موعد الانتخابات النيابية، فإنّ الحرب السياسية ستنفجر وبشكلٍ عنيف، لكي تشكّلَ الانتخاباتُ بداية مرحلةٍ جديدة كما يأمل هؤلاء، وسيَجري ذلك بالتوازي مع الضغوط المالية الأميركية، والضغوط الإقليمية.
لكن هنالك مسألة أساسية لا نأخذها كلبنانيين في حساباتنا السياسية، فإذا كانت الحرب تَهدف إلى تغيير واقعٍ وإرساءِ معادلات جديدة، فإنّ الضغوط تهدف عادةً إلى محاولة تعديل بعض الأوراق قبل التوصّل إلى التسويات والاتفاقات... والمراحل الماضية خير إثباتٍ على ذلك.