لستُ فاهمًا ما يجري حولي. أأنا عبثيٌّ الى هذا الحدّ أم أنّ الأمور من حولي عبثيّة؟ أأنا أفقد قليلًا أو كثيرًا من حسّ المنطق لديّ أم أنّ الأمور من حولي هي التي تفقده وتفتقده منذ زمن من دون أن أشعر بذلك إلا متأخرًا؟

أغربُ ما في الصورة أنني لستُ في الصورة، أو هكذا قد أبدو. في الصورة العامّة عنصرٌ غريبٌ يتجاذبني، يتناتشني، يزرع فيّ علامات استفهام لا تنتهي. حتمًا لستُ كافرًا ولستُ لاأدريًا، ومع ذلك أخشى مواجهة نفسي بسؤالٍ يجرؤ عليه كثيرون سواي: ما الذي يبقيني هنا؟ هو السؤال “الكليشيه” الذي لا يستدعي سوى جواب “كليشيه” من قبيل وابل العواطف واللغو عن أرضٍ وترابٍ وأمٍّ وتجذّرٍ وتريُّف.

لم يفهم بعد زعماء الوطن لا بل متزعّموه أنّ نفوسنا باتت “أيلولية”. يعتريها خريفٌ، يستوطنها ولا يرحل عنها. لم يعوا بعد أنهم في العمق مكروهون كريهون مبغوضون، لكن في الظاهر هم حاجة سيكولوجية غرائزية لإشباع حاجاتٍ تفصيلية تُحدث فرقًا لجيل “عتيق” متمسّك بكلمته المبدأ، وجيلٍ جديدٍ منجرفٍ خلف طيشه غير الموثّق في الكتب بل المحكيّ عنه.

أاستِنعاجيون نحن الى هذا الحدّ؟ أمُتَمسحون نحن الى هذه الدرجة؟ أانبطاحيون نحن الى هذا المستوى؟ لمَ نبقى؟ لمَ بقينا أصلًا؟ لتنهشَ ​الضرائب​ مثلًا ما بقي في جيوبنا وأدراج بيوتاتنا الخيّرة التي يستدين ربُّها كي لا ينقص برادَها غذاءٌ أو ماء؟ أجائعون نحن للزعيم وخدماته؟ أبشرٌ شعّارون نحن أصلًا، يُسارُ على جروحنا ونصمت؟ ألهذه الدرجة غدونا على صورة الله ومثاله، على صورة ابنه نُساق ونُجلَد ونكلّل بالشوك ولا نطلب لجلادينا سوى السماح رغم أنهم يدرون ماذا يفعلون؟

لم أعُد فاهمًا حقيقة ما ننتظره بعد من أنفسنا ومن سلّاخينا. أننتظرُ وعدًا يتراصف فوق وعودٍ نعيش عليها؟ أننتظرُ زفتًا ووضعُنا أسوأ من الزفت؟ أننتظرُ حفنةً من الدولار كلّ أربع سنوات لنصوّت لفلان وعلتان؟ أننتظرُ ترميم جدار دعم قريبٍ من منزلنا ونفوسنا هي التي تحتاج الى إعادة ترميم من حروب الماضي والحاضر والمستقبل؟

قد تبدو دعوةً سخيفة الى “الثورة” أو الانتفاضة أو الفورة على الزعماء، ولكنّها في الواقع أشبه بعودةٍ الى الذات. الى”الكليشيهات” نفسها: الى الأرض الأم، الى التراب ورائحته الطارئة بعد أولى الشتوات، الى طيور تشرين المهاجرة ونحن غير الرحّالين. هي دعوة الى اللجوء الى الخالق، الى أيّ إله فيه تؤمنون، الى أيّ قوةٍ خارقة فيها ترون خلاصَنا وخلاصكم. جديرٌ بنا الاستسلام. جديرٌ بنا الرحيل بلا نظرةٍ الى الخلف. لا يستحق منا هؤلاء نظرة حتى. لا يستحقون شتيمة تكبّرهم ولا إطراءً يصغّرهم. وطالما أنهم لن يرحلوا عنّا لا في أيار الـ2018 ولا بعده، فلنرحل نحن عنهم. فلنرحل نحن مع اعتذارٍ الى المتحزّبين الموهومين بالقضية. فلنرحل نحن مع اعتذارٍ من الأرحام التي ولدتنا هنا ولا ذنب لها أو لنا في ذلك. فلنرحل نحن طالما أن هؤلاء لم يفهموا أو لا يريدون أن يفهموا أننا لسنا مسيحًا يُصلَب ويُجلَد ويبتسم، ولا حسينًا يُطعَنُ ويُغدَر، ولا نبيًا يسامح وينشر القيم في المعمورة. فلنرحل نحن طالما أن هؤلاء لم يقتنعوا بعد بأن كلامَنا هذا غير مبالغ فيه وبأن جلدنا المتكرّر لا يقتصر على أسواطٍ حقيقيّة بل على مئة ميتة نموتها يوميًا قهرًا او جورًا أو استعطاءً. فلنرحل بلا شعاراتٍ قبل صياح الديك، فلننكرهم ولنبعهم بثلاثين من الفضّة بلا نظرة الى الخلف... هؤلاء لا يستحقون حتى تلك النظرة. أما إذا كانوا ينتظرون منّا اعترافًا فلهم ذلك لإرضاء “الإيغو” القاتلة فيهم: نعَم هزمتمونا، حطّمتمونا، أحبطتمونا. انتشوا بذلك ما شئتم، انتشوا بصرخاتنا حتى الموت الفقير!