حين يأتي موعد «الاستقلال» تعطّل البلاد وتعمّ الاحتفالات أرجاءه كافة، إلا أنّ النقاش في مضمونه السياسي وما إذا كان هذا الاستقلال السياسي قد تحقّق فعلياً أم لا يبقى غائباً، لئلا يتمّ تبخيس الاحتفالات التي تكلّف الدولة الملايين من الدولارات. وكلما طالب أحد من أفراد الشعب ببيان نتائج ما تدور الاحتفالات حوله لم يلقَ إلا سراباً لا يروي عطشاً.
هذا الكلام أسوقه لأنّ معظم المواطنين الذين يقومون بواجباتهم ويكدحون ويقاومون ويدفعون الضرائب ويبذلون دماءهم لا يشعرون بقيمة هذا الاستقلال سياسياً واجتماعياً. القوى السياسية بمعظمها مسخّرة وليست صاحبة أمر وقرار. البيئة البرجوازية معطِلة ومعرقلة طموحات وآمال الفقراء والمهمّشين. والطائفية بعباءتها الواسعة تأتي لتجعل الغالبية تنساق وفق خطط ومصالح الكبار ساسةً وتجاراً. فأي حال وصلنا إليه؟ وكأن المجتمع اللبناني يخوض معركة كبرى من أجل البقاء بكرامة. ليس تهديد العدو وحده من يؤرق اللبنانيين، بل الطبقة النافذة التي تتحمل مسؤولية كبرى في هذا الرق الاجتماعي العام والأوضاع المعيشية المؤلمة. إنّ المواطن اللبناني الذي بدأ يصيبه الإجهاد وضيق الأمل لا يشعر بالاستقرار النفسي، لأنّ الدولة التي يفترض أن تكون أولى واجباتها تأمين الضمانات الاجتماعية له تسرقه وتبدّد ماله. صحيح أنّ الأزمات الماضية لم تؤدِ إلى تفجّر الأوضاع، ولكن الحالة الاجتماعية والنفسية المفككة ستجعل البلاد أمام أخطار لا أظن أنّ المسؤولين سينجون منها هذه المرّة. المواطن إذا رأى الدولة تنهار أمامه، فإنّه لن يدافع عنها لأنها تنهبه وتظلمه وتفرض عليه المزيد من الضرائب لتمويل حفلات ومهرجانات زوجات المسؤولين، أو لتمويل محكمة دولية تصنع الأكاذيب والفتن، أو لتمويل مدارس مجانية وأبنية للإيجار. وهي في الحقيقة ليست إلا مزاريب للهدر والفساد البشع.
منذ أن جاءت حكومة الحريري الأولى بعد الطائف واللبنانيون على موعد مع الازدهار والتنمية والنهضة والحياة الكريمة، لكن الواقع يقول إنّ الحياة باتت تضيق أكثر فأكثر والغلاء إلى تصاعد، ومال الدولة يتناوله الكبار من دون موازنات سنوية وقطع حساب، وأراضي الدولة يستولي عليها هذا الزعيم وذاك لمشاريعه الخاصة، أما الخدمات من صحة وماء وكهرباء وطرقات فهي من سيئ إلى أسوأ. والناس في حالة غليان، القوي منهم يأكل الضعيف.
فهل هذه ظاهرة سليمة؟ هذه الحالة التي يضطر فيها الموظفون أيضاً إلى السرقة لتحصيل كرامة العيش، لأنّ الدولة لا تقوم بتأمين ضمانات كافية، فيما النواب والوزراء ينعمون بوفرة مالية وحظوة اجتماعية. إلى أين وصلنا أيها السادة المسؤولون؟ إلى أين تأخذون هذا الشعب بضرائبكم التي قلتم إنها من أجل تمويل السلسلة، ولكنها تركت الأسعار من دون ضبط ورقابة وحمّلتم فئات أخرى أعباء إضافية. إنّ وضعنا الآن في انحدار وتسافل والدولة حتماً تسير إلى حتفها. فلا يغترّ البعض بأنّ المقاومة تدافع في هذا الجانب والجيش يدافع في جانب آخر، وبالتالي فإنّ مكاسبه وغنائمه من مال الدولة سيستمر؟ كلا، فهذه المعادلة لا تبقى إلى الأبد.
الله سبحانه يقول : قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا، الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا». فمن يظن أن الوضع سيبقى على حاله فهو واهم، لأنّ التغيير من سنن التاريخ. والتاريخ لن يرحم كل أولئك الذين فتحوا البلاد للغزاة الأعداء أو الذين سببوا بكل هذا الخراب والتأكل الداخلي وأرهقوا اللبنانيين بضرائب تقع على رؤوسهم كما تقع المقاصل.