ليست المرة الأولى التي يعلن فيها عن نجاح مصر في لعب دور منتج على صعيد مناطق خفض التوتر في سورية بعد جهود حثيثة في العاصمة المصرية القاهرة ضمّت المعنيين بهذه الأزمة. واللافت هنا اهتمام روسيا بهذا الدور وبفرد مساحة ملائمة لتجييره لصالح الموقف العربي المعتدل أو المقبول من الأطراف كافة، حسب المعنيين الروس، بما يوحي باتفاقات مباشرة بين قيادتي الدولتين بخلق أمل جدي يؤسس عليه في المرحلة المقبلة، بحيث كان لمصر الدور الأفعل في تكريس الخيار الروسي الآيل إلى تفعيل المصالحات ومناطق خفض التصعيد بالاتفاق مع الأطراف، إلا أن هذا لم يكن بالسهل بعد أن باتت كل الأطراف القادرة على البتّ بالنزاع طرفاً بالازمة. وعلى هذا الاساس لعبت مصر دور الوسيط القادر على كسر جدار التعقيدات في وقت تعززت العلاقة الروسية المصرية، لجهة التنسيق الأمني والعسكري بشكل ملحوظ، خصوصاً خطط مكافحة الارهاب.
المساعي المصرية في سورية ونجاحها تؤكد على اقتراب التسويات أكثر فأكثر، وأن الحرب السورية شارفت على النهاية بمنظار القوى الأكثر تأثيراً بالأزمة. وهي بمعظمها استسلمت لقوة الأمر الواقع التي تشرح عمق الاستنزاف الحاصل على خط الصراع منذ أكثر من سبع سنوات، مصر التي تسلّمت دوراً محورياً في سورية في الجزء الثاني من عمر الأزمة السورية، في ما يتعلق باستضافة او استقبال اجتماعات للمعارضة السورية، كانت تدرك جيداً أن هذا الدور هو أحد أبرز المحطات القادرة على إعادة حضورها الذي «خفت» مؤخراً، بعد ان كادت تصبغها سياسة الحركات الإسلامية المتمثلة بالاخوان المسلمين وهم المصنفون «إرهاباً» بالنسبة لروسيا، فصار هذا التقاطع القوي بين القاهرة وموسكو منذ لحظة وصول الرئيس عبد الفتاح السيسي للرئاسة وإسقاط الرئيس محمد مرسي ممثل الحركة الإسلامية الأكثر حضوراً في مصر.
روسيا التي كانت تدرك الحاجة الى دور وسيط عملت على عدم «تلويث دور مصر السياسي ورعايته بكل ما من شأنه ان يجعلها واحدة من الدول التي «لا» ترسم علامات الاستفهام حولها، حتى أن روسيا التي تعرف المأزق السياسي بينها وبين الولايات المتحدة الاميركية تدرك ان مصر مقبولة من واشنطن تماماً، كما موسكو وبذات الشكل الذي يحرص فيه الطرفان، فبين تسمية مصر «وسيطاً» او اعتبارها فرصة للقاهرة لإعادة الحضور المصري في الملفات العربية، تبقى الحركة السياسية المصرية النشطة مؤشراً كبيراً على التفاهم غير المعلن بين روسيا والولايات المتحدة الأميركية من جهة وبين روسيا والمملكة العربية السعودية من جهة أخرى. وهي التي كان قد زارها مؤخراً الملك السعودي سلمان بن عبدالعزيز على رأس وفد سعودي كبير، وصفت الزيارة على أثرها بالتاريخية.
الحراك المصري المدعوم سعودياً بزخم مباركة الرياض لـ «العهد»، أي عهد عبدالفتاح السيسي منذ نجاحه بإسقاط الرئيس مرسي هو أيضاً موضوع ضمن التجاذب السعودي مع تركيا وقطر، والمنافسة على النفوذ داخل الساحة المصرية. وبعيداً عن أي «طوباوية» يبقى للمملكة العربية السعودية تأثير سياسي وتحالفي شديد على النظام المصري الحالي بعد أن كان من المتوقع ان تقع الحيثية المصرية بيد تركيا ومدارها السياسي الحيوي المتمثل بقطر حتى أصبحت الاخيرة اليوم إحدى اكبر الجهات التي اعلنت مصر مقاطعتها جراء خلافات سبقت القطيعة الخليجية للدوحة لتصل الى مرحلة اتهمت فيها القاهرة دولة قطر بدعم الارهاب داخل الشارع المصري الذي شهد تفجيرات عدة يُضاف اليها مناطق التوتر في سيناء التي اتهمت فيها ايضاً حركة حماس الفلسطينية المدعومة تركياً وقطرياً على حد سواء قبل أن يتغير المشهد.
المصالحة الأهم اليوم والتي تتصدّر حديث الشارع العربي تكمن في دور مصر بالنجاح في طي صفحة من التوتر والتشنج الكبيرين الذي ساد العلاقة بين الأفرقاء الفلسطينين، فجمعوا ضمن المبادرة تحت سقف واحد، بعد ان وقعت حركتا «فتح» و«حماس»، على اتفاق مصالحة في العاصمة المصرية القاهرة، نصّ على «تمكين الحكومة من إدارة شؤون قطاع غزة» بغض النظر عن استباق نتائجه وإذا كان سيصمد أم لا.
اللافت أن الخارجية القطرية رحّبت باتفاق المصالحة الذي تمّ توقيعه بين حركتي «فتح» و«حماس»، معتبرة أن «الاتفاق خطوة هامة في الاتجاه الصحيح نحو إنهاء حالة الانسداد السياسي واستعادة روح الشراكة بين الأطراف الفلسطينية، بما يوحي أن السلطات القطرية تريد القول إنها ليست خارج أجواء هذه المصالحة التاريخية، بل إنها واحدة ممن كانوا على دراية بتفاصيلها، خصوصاً ان العلاقة بين حركة حماس وقطر جيدة جداً، كما هو معروف. وبالتالي فإن الرسالة القطرية في تحية المصريين على هذا الإنجاز قادرة ان تؤسس لمرحلة ايجابية مقبلة بين الطرفين، لأنه على ما يبدو أن هناك تسهيلاً قطرياً للحل أقله من جهة عدم عرقلة خطوات حركة حماس. وهو رسالة واضحة لمصر حول نية قطرية بتحسين العلاقة أو إيجاد فسحة ممكن البناء عليها للمرحلة الثانية من تنفيذ الاتفاق. واذا كان السؤال حول إمكانية أن تشكل المصالحة الفلسطينية الفلسطينية مقدمة لمصالحات أخرى وارداً، فإن السؤال الأهم هو من هي الجهة الدولية التي رعت هذا الخيار وضمن أي توجه؟
وحدها روسيا التي تبدو أنها حملت مفتاح الحركة السياسية في المنطقة نجحت باستقطاب السعودي والمصري والقطري إليها، ووحدها بالتالي قادرة على إعادة بلورة صيغ العلاقات المشتركة في توقيت جمع ما بين المصالحة الفلسطينية ومنطقة خفض التصعيد في سورية تحضيراً لما هو أبعد وأشمل.