فجّر قرار الرئيس الأميركي دونالد ترامب بعدم التصديق الدوري على الاتفاق النووي مع الجمهورية الإسلامية الإيرانية الذي أصبح معاهدة دولية بعد إقراره من قبل مجلس الأمن الدولي، ورميه الكرة في ملعب الكونغرس الأميركي ليتخذ القرار والمرجّح أن يكون المزيد من العقوبات ضدّ إيران، في وجهه عاصفة غير مسبوقة من المعارضة الدولية، حتى من قبل الاتحاد الأوروبي، وأبرز حلفاء أميركا في الغرب، بريطانيا وفرنسا وألمانيا. عدا طبعاً عن باقي الدول الكبرى الموقعة على الاتفاق مثل روسيا والصين وإيران. حتى أنه لم يخرج من يدعم موقف ترامب سوى «إسرائيل» والسعودية اللتين طالما حرّضتا ضدّ الاتفاق وسعت كلّ منهما إلى ممارسة الضغوط لمنع إدارة الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما من التوقيع عليه بعد مفاوضات مضنية وشاقة بين إيران والدول الست الكبرى.
المفاجأة – الصفعة بالنسبة لإدارة ترامب كانت المعارضة القوية والفورية من قبل الاتحاد الأوروبي، والتي جاءت على لسان مسؤولة السياسة الخارجية للاتحاد فيديريكا موغيريني التي أعلنت أنه لا يحق لأميركا إلغاء الاتفاق أو تعديله، لأنه اتفاق دولي وليس معاهدة ثنائية بين أميركا وإيران. أما الصفعة الثانية فقد جاءت من قبل بريطانيا الحليف الغربي الأقرب لأميركا التي طالما كانت تقف إلى جانب واشنطن في السراء والضراء، وشكلت طوال المرحلة السابقة التي أعقبت الحرب العالمية الثانية المسوّق لسياسات الهيمنة الأميركية على العالم كلّها، والداعم الأول لحروبها الاستعمارية، حيث وقف وزير خارجيتها إلى جانب نظيريه الفرنسي والألماني ليعلن معارضة بريطانيا لموقف ترامب وتأكيد الالتزام بالاتفاق. والصفعة الثالثة جاءت من مدير الوكالة الدولية للطاقة الذرية يوكيا امانو، المولجة وكالته مراقبة تنفيذ إيران للاتفاق، حيث أكد رداً على خطاب الرئيس الاميركي دونالد ترامب، التزام إيران بجميع موجبات الاتفاق النووي، مؤكداً «أن إيران تخضع لأشدّ نظام للتحقق النووي في العالم».
ولم يقتصر الأمر على هذه المعارضة الدولية القوية التي تكذب كلّ ادّعاءات ترامب بشأن خرق إيران للاتفاق وعدم التزامها في تنفيذ بنوده، بل إنّ ترامب واجه معارضة داخلية شديدة من الديمقراطيين، وحتى قسم من الجمهوريين في الكونغرس، على أنّ مجلس العلاقات الخارجية الأميركية الذي كان سابقاً من أشدّ معارضي توقيع الاتفاق رأى أنّ الانسحاب من الاتفاق من دون دافع منطقي من شأنه خلق حالة من التعاطف مع إيران.
ولفت ماكس بوت الباحث في المجلس في مقال له في مجلة «فورين بوليسي» إلى أنّ التخلص من الاتفاق النووي، «من شأنه إرسال إشارة سلبية للدول الأخرى التي يمكن أن تكون مهتمّة في المستقبل بإبرام اتفاقية للحدّ من انتشار الأسلحة مع الولايات المتحدة، في حال أرادت واشنطن إلغاء الاتفاق لمجرد تغيّر الإدارة. لماذا سيثق أحد بواشنطن بعد الآن».
من الواضح اذن أنّ موقف ترامب وضع أميركا في مواجهة مع معظم دول العالم، وفي المقدّمة حلفائها الأقرب لها، فموقف موغيريني عدا عن كونه فاجأ جميع المراقبين بسرعته ووضوحه وحزمه، فإنه كشف عن أنّ الهوة بين الاتحاد الأوروبي وأميركا تتسع وأن استمرار السياسة الأميركية في هذا المنحى قد يؤدّي الى إحداث طلاق في هذه العلاقة، والموقف البريطاني مؤشر هام على هذه الهوة التي باتت تفصل بين أوروبا وأميركا، وهو أمر يقود إلى عزلة أميركا، واحتمال انفراط عقد التحالف التاريخي بين أميركا وأوروبا التي أصبحت مصالحها مهدّدة نتيجة السياسات الأميركية، لا سيما أنّ الاتفاق النووي رتّب التزامات وعقوداً وصفقات اقتصادية وتجارية بين الدول الأوروبية وإيران وبوشر في تنفيذها. في حين أنّ نهج العقوبات الأميركية ضدّ روسيا يلحق الضرر بمصالح الكثير من الدول الأوروبية، خصوصاً أنه لم يعد هناك من مبرّر لها بعد أن أضحت روسيا دولة رأسمالية وليست اشتراكية.
هذا التطوّر السلبي الذي يعمّق الهوة في العلاقات الأميركية الأوروبية يحصل لأول مرة، ما يؤكد أنّ السياسة الأميركية التي تمرّ بمرحلة من انعدام التوازن والتخبّط نتيجة محاولات أميركا عدم التسليم بالمعادلات الدولية الجديدة المتعارض مع منطق الهيمنة الأميركية هي السبب وراء تراصف العالم في مواجهة إدارة ترامب إزاء الموقف من الاتفاق النووي، وجعل أميركا في حالة من العزلة العالمية لأول مرة في تاريخها، بعدما كانت للأمس القريب دولة تهيمن على العالم يهابها الجميع ويسير وراءها معظم دول العالم. فاليوم باتت غير قادرة على إلزام أحد بقرارها.
من دون شك أنّ مثل هذه السياسة الأميركية تؤدّي كما هو واضح إلى إضعاف مكانة أميركا الدولية وتعزيز حالة الانقسام والشرخ داخل أميركا وحتى في صفوف الحزب الجمهوري، ما دفع الكثير من المحللين إلى الحديث عن احتمال عودة قوية، للمطالبة بعزل الرئيس ترامب من منصبه باعتبار سياساته تلحق الضرر الفادح بالمصالح الأميركية.
انطلاقاً مما تقدّم يمكن القول إنّ موقف ترامب واستمراره قاد وسيقود أميركا إلى العزلة الدولية والتعجيل بوضع حدّ لنظام القطب الواحد وقيام نظام دولي تعدّدي يضع حداً لحالة الفوضى العالمية التي تسبّبت بها سياسات الهيمنة والتسلط والبلطجة الأميركية التي سادت في العقدين الأخيرين إثر انهيار وتفكك الاتحاد السوفياتي السابق واختلال التوازن الدولي واستغلال الولايات المتحدة ذلك لفرض هيمنتها على العالم.