"لا يلدغ المؤمن من جحر واحد مرتين"، كلام قد يصح على الوضع الفلسطيني الحالي في التعاطي مع اسرائيل. فحين كان ياسر عرفات على قيد الحياة، ابرم مع شيمون بيريز اتفاق اوسلو الشهير الذي اعتبره الكثيرون بمثابة "خشبة الخلاص" للفلسطينيين، فيما حذر آخرون من انه لا يصب في مصلحتهم، ويساعد اسرائيل على ترسيخ نفسها كبلد مهيمن عليهم دون الاخذ في الاعتبار الكثير من الامور وفي مقدمها حق العودة.
اليوم، يبدو ان الرئيس الفلسطيني محمود عباس يتعرض للكثير من الضغوط للسير على خطى عرفات في هذا المجال، ولعل الدفع المعنوي الذي اكتسبه من خلال الاتفاق الذي ابرم بين حركة "فتح" وحركة "حماس" واعطى للاولى سيطرة على قطاع غزة، حيث تحوّل عباس الى الممثل الوحيد للفلسطينيين بعد الانقسام الذي كان سائداً والخلافات الكبيرة التي شقّت الصف الفلسطيني. ولا شك ان الكلام الاخير للادارة الاميركية عن وجوب اعتراف عباس باسرائيل ونزع سلاح "حماس"، ليس بجديد لكنه يكتسب في هذا الوقت وفي ظل هذه التطورات اهمية اكبر وجدية اكثر وضوحاً في ظل التسويات المنتظرة التي ستشهدها المنطقة وبات تنفيذها قريباً.
ولكن العقبات التي كانت قائمة امام اتفاق اوسلو، لا تزال حاضرة وبقوة امام اي اتفاق قد يعقد بين الجانبين الاسرائيلي والفلسطيني في المستقبل القريب، ومنها على سبيل المثال لا الحصر: حق العودة للاجئين، قضية القدس، الحدود الجغرافية للدولة الفلسطينية وكيفية تسليحها واحقية الدفاع عن الارض... لا شك ان تغيّر الاوضاع والظروف يجعل نسبة امكان التوصل الى اتفاق اكبر من اي وقت مضى، خصوصاً وان سوريا باتت ضعيفة، وغالبية الدول العربية باتت تتقبل الحديث عن تطبيع مع اسرائيل (رغم المواجهة الشرسة التي خاضها رئيس مجلس الامة الكويتي مرزوق الغانم ونجح خلالها في طرد الوفد الاسرائيلي من مؤتمر الاتحاد البرلماني الدولي في روسيا)، وعباس نفسه يحتاج الى ما يثبت زعامته ويترك ارثه لدى الفلسطينيين على انه عرفات الجديد والوحيد الذي استطاع ان يؤمّن للشعب الفلسطيني دولة يعترف بها العالم. وفيما تتحطم امنيات الاستقلال والانفصال عن الدول من اسبانيا الى العراق، تسير السلطة الفلسطينية على سكة مغايرة، بتشجيع عالمي قلّ نظيره.
ولكن، هل يمكن فعلاً الوثوق بالمسؤولين الاسرائيليين؟ وما هي الضمانات الكفيلة بطمأنة الجميع انهم سيلتزمون بنود اي اتفاق سيتم التوصل اليه، حتى ولو كان يصب في مصلحتهم؟ ان اتفاق اوسلو خير شاهد على سرعة التقلب الاسرائيلي، حتى ان المسؤولين في تل ابيب رفضوا الاعتراف بهذا الاتفاق في الآونة الاخيرة، واعتبروه وكأنه لم يكن، رغم انه اقيم برعاية دولية وتحديداً اميركية. مطالب اسرائيل اصبحت اكثر حدية ومنها مثلاً الاعتراف بأنها دولة يهودية، وهو ما يحمل اكثر من علامة استفهام حول انفصالها عما يسمى بـ"عرب اسرائيل" فتكون بذلك الدولة الوحيدة التي تشذ وبشكل علني ورسمي، عن قاعدة العيش المشترك والتعايش مع الآخرين، فكيف يمكنها بالتالي ان تتقبل وجود دولة اخرى مجاورة لها في المستقبل، تعتبرها حتماً دولة معادية؟.
ان كل امؤشرات تفيد ان الضغوط تقام حالياً على الفلسطينيين للسير بخيار اتفاق سريع مع اسرائيل، انما يجب الحذر من انعكاس مثل هذا الاتفاق على الدول العربية بالدرجة الاولى، وبالتحديد على الدول التي تشترك بالحدود مع "الدولتين المتجاورتين" وفي مقدمها لبنان الذي سيجد نفسه مرغماً على الموافقة على الاتفاق (في حال حصوله) لعدم الخروج عن الاجماع العربي اولاً، وعدم المزايدة على الفلسطينيين الذين يكونوا قد ارتضوا بحل صراعهم مع اسرائيل ثانياً، فيما يمكن ايجاد حل لمشكلة الاراضي اللبنانية المتنازع عليها مع اسرايل في مرحلة لاحقة.