بالتأكيد ستدخل حكومةُ «استعادة الثقة» كتابَ «غينيس للأرقام القياسية»، لا من حيث الإنتاجية أو الفاعلية أو الإنجازات كما يقول رئيسُها في كل مرّة يدافع عنها، وإنما لأمور وهموم أخرى أهمّها صمودها وبقاؤها في الحكم على رغم تنافس أعضائها قبل أعدائها على انتقاد بعضهم البعض وانتقاد الكثير من قراراتها... وصمودها الغريب العجيب والقوي بات يُضرَب المثل فيه، فما أن يصرّحَ أحد أعضائها متّخذاً موقفاً في شأن داخلي دقيق أو خارجي يرتبط بالداخل حتى ينبري زميلُه في الحكومة عينها وينتقد موقفَه انتقاداً عنيفاً ولاذعاً... ليردّ له المُنتقد الصاع صاعَين قبل غياب الشمس وبزوغ القمر.
والأمثلة على ذلك أكثر من أن تُحصى أو أن تُعَد... يكفي مراجعة وسائل الاعلام أو وسائل التواصل الاجتماعي لإدراك هذا الواقع المريب، والمستمرّ من دون توقف، والأسوأ من هذا الواقع غير الصحّي هو أنّ هذه الحكومة تعقد اجتماعات أسبوعية وتُنتج وتجري تعيينات كما توزّع الأعمال والمشاريع، وكأنّ لا خلاف لا في السياسة ولا في إدارة البلد... حكومة كان من المفروض أن تقودها التناقضاتُ الظاهرية فيها الى الانفجار أو أقله الى اعتكاف او استقالة معظم الوزراء فيها، ولكنها صمدت كأعجوبة في زمن لم يعد فيه مكان للأعاجيب...
وكعادتهم اللبنانيون يُرجعون أمرَ صمودها الى قرار دولي وإقليمي وكوني بعدم تفجير الوضع في لبنان، وبعضهم الآخر يقول إنّ بقاءَها هو للمحافظة على الستاتيكو الموجود في البلاد في انتظار الانتخابات النيابية المقبلة، والتي قد تأتي في موعدها الممدَّد أو قد تتأجّل مرةً رابعة وجديدة.
ولكن الجميع ينحني أو يكاد أمام هذا الثبات في عمل الحكومة المترافق مع التفجيرات الصوتية والتناقضات في التصاريح لأعضائها والتي تصل الى حدّ التخوين أحياناً كثيرة. وبعيداً من الحسابات المعقّدة والنظريات السياسية التي يُجيد إطلاقها اللبنانيون، فإنّ بقاءَ هذه الحكومة وصمودَها يعودان الى سبب وحيد وهو أنها حكومة «زجالين» وغالبية اعضائها يشتركون فيها على قاعدة المشارَكة في حفلة زجل تقوم على الاختلاف أمام المشاهدين وإعلاء التحدّي والصوت وتحقير الآخر بهدف جذب أكبر عدد من المستمعين، ومن ثمّ تقاسم مغانم الحفلة عند انتهائها... هكذا نرى أنّ التوافق يسقط فجأة عند الاتفاق على توزيع المغانم فيصمت الجميع ويوقّعون المراسيم والنفقات والعجز والضرائب... لتنطلقَ حفلةُ زجل جديدة قوامها حشدُ المؤيّدين والأصوات التفضيلية، فالانتخابات النيابية على الأبواب، أما تقاسم الغلة فلا خوف منه أو عليه...
في اختصار يدرك أركانُ هذه الحكومة أنه من السهل التقاء المواقف الشعبية من جهة وتمرير المصالح الشخصية والملحّة من جهة أخرى. فنحن شعب يحبّ الزجل وحفلاته ونعشق الزجالين ومَن معهم من مردّدين يقفون خلفهم بكل وقار وهدوء، ومِن دون خوف يردّدون كالصدى آخر ما جادت به أريحةُ الزجال وصحبه... والحفلة مستمرة وكذلك نحن مستمرّون بالدفع والتصفيق...