نتأمَّل في هذا الأحد المبارك بالوزنات (الأحد السادس بعد الصليب) التي أعطانا إيَّاها الله وبحسن استعمالها أو بسوئه، وكيف سنؤدِّي حساباً على ذلك.
1–ما هي الوزنات؟
يقول الرسول بولس: أيُّ شيءٍ لنا ولم نُعطه مِنَ الله. وبناء على ذلك نستنتج أنَّ الوزنات التي وهبناها الله كثيرة منها: وجودنا، عقلنا، حواسنا الخمس، مشاعرنا عواطفنا، هيبتنا وقوَّتنا. ومنها أهلنا وأولادنا ومعارفنا، ومنها مالنا والخيرات الدنيا، ومنها وطننا، وأهمُّها إيماننا وكنيستنا بكلِّ ما فيها من قدسيَّات وما تهبنا من نِعَم. وبإمكان كلِّ واحد من الناس أن يزيد على هذه اللائحة عشرات الوزنات التي أعطيت له بنوع خاص، كالمواهب التي تعطى لوحد مِنَّا ولا تعطى لآخر، مثل الموسيقى والشعر والرسم والنحت والخطابة والجمال الخارجي وما إلى ذلك من عطايا مميَّزة.
2–ماذا صنعنا بوزناتنا؟
حين وهبنا الله هذه الوزنات (متَّى 25، 14–30)، طلب إلينا حسنَ استعمالها بالطريقة التي تمجِّد الله وتفرح الإنسان وتُسعد صاحبها. أي بما هو لخير الفرد وخير الجماعة. وهكذا لو أخذنا كلَّ بابٍ من أبواب الوزانات وتأمَّلنا كيف تاجرنا بها، نتساءل:
أ– كيف استعملنا عقلنا وذكاءنا وحكمتنا وفطنتنا؟
هل للمعرفة الصحيحة الحقيقيَّة أم ملأنا رأسنا بالتفاهات والترَّهات ؟ هل حاولنا أن نعرف الله أوَّلاً، ثمَّ نتوجَّه الى العلوم والمدارك الأخرى ؟ أم تلهَّينا بأمور المعرفة الدنيا عن معرفة الحقِّ وكلامه وحبِّه ونصحه؟ هل مال عقلنا الى الأضاليل والبدع والكفر والهرطقات، فأنكرنا الله وخيره؟
ب– وكيف تاجرنا بحواسنا، نظرنا سمعنا لمسنا لساننا وأنفنا ؟ هل نظرنا وسمعنا ولمسنا ونطقنا بما يشكِّك ويضلِّل ويبعد عن الخير والحقِّ؟ هل مال نظرنا عن جمال الخليقة التي تحدِّثنا عن الله بكلِّ ما فيها، الى الخلاعة وأفلام الدعارة والمشاهد الشاذَّة ؟ هل ملأنا آذاننا بمَّا يسبِّح الله من الكلام والأنغام والإنشاد والترداد، أم توجَّهنا الى الصخب والضجيج والعجيج، لنفقد صوابنا وتذهب هذه الأمور بعقلنا؟ هل ملنا الى سماع كلام الناس على الناس واستعذبنا النميمة وتشويه السمعة واختلاق الأباطيل؟ هل كان الإصغاء فينا لصوت الله أم أصوات الشرِّ الكامن المتربص بأبناء الله؟ وكيف تاجرنا بلساننا ونطقنا الذي يميِّزنا عن سائر الخلق، لنرفع صوتنا بالحقِّ تمجيداً لله، فربحنا وجعلنا الآخرين يربحون؟ أم سخَّرنا لساننا للشتم واللعن وقول الأكاذيب وشهادة الزور، فكنَّا المثل السيِّء ففسدنا نحن وأفسدنا مَنْ حولنا؟ وكما العين والأذن واللسان، كذلك الأنف واللمس، إنَّما وُجِدت كلَّها لنزداد معرفة بالحقِّ، ونتواصل مع الناس. فالويل لنا إذا حوَّلنا ما كان أصلاً للخير أداةً للشرِّ، فانقلب بسببنا الخيرُ شرًّا، والصدق كذباً، والفرحُ حزناً، واللقاء عداوة. فعندها نستحقُّ حكم الله ونرمى في الظلمة البرَّانيَّة.
ج–وكذلك نسأل ماذا فعلنا بمشاعرنا وعواطفنا وأحاسيسنا وهيبتنا وقوَّتنا؟ هذه التي وهبناها الله لنشعر بالحبِّ والعطف والنجدة والمساعدة، فنزرع فينا وفي من حولنا الإحساس الجميل، أنَّ الإنسان ليس وحده بل منحة الله نعمة المشاركة أخذاً وعطاءً. فهل نجحنا في الحفاظ على هَدف هذه القوى الذي وضعه الله لها، أمْ وجَّهناها للغضب والعنف والكره والنقمة والأنانيَّة، فَرزَلناورُزلنا وضُرِبنا وضربنا وأَهنَّا وأُهِنَّا، وبالتالي شوَّهنا صورة الله فينا وكنَّا سبب تشويهها في سوانا؟
د–ونسأل أيضاً كيف كنَّا مع أهلنا وأولادنا ومعارفنا؟ فهل أكرمنا والدينا بالحبِّ والإحترام والسهر والعناية؟ أمْ اكتفينا بواجب إعطائهم بعض المال كي يسدُّوا الحاجات الضروريَّة؟ أمْ حرمناهم حتى المساعدة الماديَّة تاركينهم عبئاً على المجتمع يتسكَّعون على أبواب من يمنحهم عطيَّة؟
هل عرفنا أنَّ الإكرام يكون كذلك بالإصغاء وتبادل الحديث وسماع الرأي تماماً كما يكون بالسند المادِّي؟ وأولادنا، هذه الوزنة التي نفرح بها حين تأتي فرحاً لا يضاهيه فرح. هل سهرنا وعملنا وقوَّمنا الإعوجاج ووجَّهنا التوجيه السليم وأعطيناهم حقائق الإيمان وأغنيناهم بالأدب والأخلاق والقيم والفضائل، الى جانب العلوم والمعارف الأخرى، كي ينموا بالقامة والحكمة أمام الله والناس؟ أمْ أهملناهم وتركناهم للدهر عملاً بالمثل: إبنك لا تعلِّمه فالدهر يعلّمه، وحينها يشرد ويتردّد على المفاسد ويهوى الأضاليل وينحرف الى الأمراض الإجتماعيَّة، تاركاً إبَرَ الشرِّير تترك على جسده الرخص الوشم الذي لا يشفى، الذي يؤدِّي الى فقدان الفرح في هذا العالم والحرمان من السعادة في العالم الآخر؟
ﻫ-وكما عقلنا وقلبنا وحواسنا وأهلنا كذلك وطننا وأرضنا، وزنات أعطيت لنا ونحن مسؤولون عن ضياعها أو تخلُّفها أو تهوُّرها أو امتلاؤها بالفساد والحروب وكلِّ النقائص التي تبعد الرقيَّ والرفاهيَّة والتطوُّر والنموَّ والثقافة والنظام والإلتزام بالخير والسلام.
أمَّا أرضنا التي ورثناها عن آبائنا فهي أمانة نسلِّمها لأولادنا، فكيف بنا نهدرها إهمالاً وبيعاً، فَنُقْتَلع منها كما الأشجار تُقلع من تربتها لتموت وتيبس ثم تحرق طعاماً للنار؟ أرضنا حيث تعب آباؤنا عرقاً ودماً، وحيث صلُّوا وصاموا وحيث نَذَروا وعمَّرو المزارات والبيوت والمعابد، كيف نرضى أن تباع فتمحى زاكرتنا وننسى ماضينا ونتيه عن مستقبلنا؟ أرضنا ملأى بذخائر القدِّيسين ودموع المؤمنين وآهات المتعبين وفرح العاملين الناشطين الذين حوَّلوها من أرض خلاء خَواء، الى أرض تدرُّ لبناً وعسلاً. أمانةٌ هي ووزنةٌ عزيزة على الله الذي أعطاناها لنعيش بكرامة هي مِنْهُ، فكيف استبدلنا بها بعض القروش التي تتساقط عند نعال العروش؟
و–أمَّا الوزنة الكبرى فهي الإيمان الذي به نلتقي بالله لنعي ونعمل، كي نرث الملكوت المعدَّ لنا من قبل أساسات العالم. فهل حافظنا على وديعة الإيمان كما يريدها الله ويعلِّمانها بطرس والكنيسة؟ أمْ شوَّهنا حقائقه بحكايات العجائز وتُرَّهات المشعوذين؟ هل حافظنا على نقائه الآتي من كلام المعلِّم السيِّد المسيح ورسله وأنجيليِّيه، أمْ أدخلنا عليه نتاج العقل المحدود وصور الشيطان العدوِّ اللدود، فانتابتنا البدع وعبادة الأوثان واعتناق الأفكار الهدَّامة، فعبدنا ألف إله وإله غافلين عن الله الذي خلقنا ورحمنا وتبنَّانا بإبنه المسيح الفادي؟
هل سلَّمنا، بعد البحث إذا شئنا، أمر الحقيقة الإيمانية الى الكنيسة الأم المعلِّمة، أمْ بحثنا عن حقائق تأتي من هنا وهناك، من الديانات والفلسفات والعادات التي لا تحمل من الحقيقة إلاَّ قَبَسًا، إذا حملت، بينما حقيقة الإيمان الذي وهبنا الله إياَّه، ساطعة كالشمس ومدهشة كالقبر الفارغ الذي قام منه المسيح ليرينا كيف هو مصيرنا، إن نحن آمنَّا وسمعنا وعملنا؟
ز–وزنة الدعوة الكهنوتيَّة والرهبانيَّة، إنَّها الوزنة التي يعطيها الله لمختاريه كي يدبِّروا شؤون أبنائه ويعطوهم الطعام في حينه. والمتاجرة بهذه الوزنة الخاصَّة المميَّزة، إنَّما تكون بالخدمة والتقديس والتعليم، والسهر على الرعيَّة التي وضعها الله بين أيدي راعيها. وهذا يستلزم الأمانة القصوى للحفاظ على صورة المسيح في عمل الكنيسة التي تؤمِّن حضوره بين الناس على امتداد التاريخ واتساع الجغرافيا. لذا على الخادم في الكنيسة، أسقفاً وكاهناً وراهباً وراهبة، أن يقدِّس نفسه أوَّلاً كي يتأهَّل لتقديس الآخرين، وأن يكون كالنبع يفيض علماً ومعرفة وصلاة ومحبَّة. تماماً كما قال مرشد أحد الأحبار، ناصحاً له: كن كالبركة وامتلىء بالماء لتعطي من فيض ما فيك، ولا تكن كالقناة توصل الماء ثمَّ تجفُّ.
ح–الأرض وما عليها لخير الإنسان وفرحه، لقد منحنا الله وزنة على مقياس الكون، لننعم بها ونفرح. من مائها نشرب ومن أرضها نأكل ومن بحرها نغرف ومن هوائها نتنفَّس الحياة الدنيا. وهنا نسأل ماذا فعلنا بهذه الوزنة؟ لوَّثنا أنهارها وبحارها، نفخنا سموم مصانعنا في سمائها، أحرقنا أشجارها، هددَّنا وجودها بأسلحتنا المدمِّرة، قتلنا طيرها وأسماكها برواسب فتَّاكة من صنع أيدينا، فإذا بنا نفقد السيطرة على آلة اخترعناها، ونلهث راكضين كي نبتكر علاجاً لمرضٍ كنَّا في أساس وجوده.
أليس هذا بديل اللعنة التي أُصيبت بها الأرض بعد الخطيئة التي وقع بها آدم حين تصرَّف في الجنَّة وكأنَّه يملكها؟ مشكلتنا الأولى أننَّا نعبثُ بالأرض وكأنَّها ملك أيدينا، بينما نحن وكلاء عليها، وما على الوكيل إلاَّ أن يصنع إرادة موكِّله. أوَلم يقل الله لآدم: من جميع شجر الجنَّة تأكل إلاَّ من واحدة؟ أوَليس في هذا التحريم دلالة على أنَّ الله هو المالك والإنسان هو الوكيل؟ وهكذا نحن أفسدنا وزنة الأرض التي كانت لخيرنا فحوَّلناها لشرِّنا وحزننا، وذلك بجنوننا وحبِّ التملُّك فينا ومحاولتنا طرد الله منها، ليسود عليها عقلنا الذي أفسدته الخطيئة، فخرِبت أو كادت.
3–كنت أميناً على القليل فسأقيمك أميناً على الكثير.
هذا الوعد الذي قطعه الله صادق ثابت. فالأمين على أمور أوكله الله عليها في هذا العالم، سينال فرح السيِّد وسعادته في العالم الآتي، كما سينال الإحترام والمحبَّة والتقدير والإكرام من نفسه لنفسه ومن الناس الطيِّبين الخيِّرين في هذه الدنا.
أمَّا القليل الذي يشير إليه الإنجيل، فليس قليلاً بحدِّ ذاته، إذا ما قيس بما في هذا الوجود، فكلُّ العطايا والوزنات، لها دورها ولها قيمتها ولها خيرها. إذا ما تاجرنا بها خير متاجرة وأَحسنَّا إدارتها واستثمارها واحترمنا وجه الخالق الواهب فيها.
أمَّا قِلَّتها فتأتي بالمقارنة مع الخيرات السماويَّة التي سنربحها، إذا ما دخلنا فرح سيِّدنا. فماذا تساوي معارف العقل من أسرار هذا الكون، أمام المعرفة السامية التي سننعم بها في مشاهدة وجه الله؟ وماذا يساوي البنون الذين نسنمِرُّ بهم جيلاً أو اثنين أو مئة، أمام الإستمرار الى الأبد في سعادة السماء؟ وماذا تساوي خيرات هذه الأرض من مالٍ وأرزاق ومقتنيات، أمام الكنز الذي سنعطاه في عيشنا بالبنوَّة في حضرة الله الذي هو الخير المطلق. وماذا تساوي الأوطان حين نعرف أنَّ مملكتنا ليست من هذا العالم، لأنَّ ملكوت الله هو وعدنا وحلمنا وديننا ومُنانا وغايتنا، وفيه نحيا بحضرة الملك السماوي؟
هكذا تظهر القلَّة بالمقارنة، لأنَّ الله بارك كلَّ الوزنات التي أعطانا إيَّها، وجعلها، إذا ما ربحنا بالمتاجرة بها، درباً الى الكمال الذي ننشده لنكون على مثال أَبينا السماوي، الكمال المطلق الذي لا يعتريه نقص، بينما النقص هو صفة كلِّ ما في هذا الوجود.
4–أعطى السيِّد الوزنات لكلِّ واحد حسب طاقته
قد يتساءل المرء عن العدالة التوزيعيَّة في عمل السيِّد المعطي، لأنَّه أعْطى بعضاً عشر وزنات وبعضاً خمس وزنات وبعضاً واحدة.
وَحْدَه العارف بخفايا القلوب قادر على تقدير إمكانات كلِّ واحدٍ منَّا، ووحده يعرف كم يستطيع كلُّ إنسان حُسْن تدبير المواهب التي حصل عليها. فالمساواة في إعطاء المواهب الأساسيَّة موجودة، فكُّلنا يملك الحياة والعقل والحواس والأحاسيس ولنا أهلنا وأولادنا ومعارفنا ومعتقدنا وإيماننا، ولنا خيرات الأرض المعطاة للجميع، ولنا وطن ننتسب إليه، وكذلك بعض المواهب الأخرى. غير أنَّ قدرة كلِّ واحد تختلف عن قدرات الآخرين في المواقف التي نأخذها في استثمار المواهب وحسن التعاطي بشأنها. كما أنَّ المقاييس لحسن التعاطي هي للجميع، فالوصايا واحدة والمحبَّة واحدة وطلب الكمال واحد. فإذا أعطى السيِّد من هو أقلُّ قدرة من غيره، نفس المقدار من الوزنات وحاسبه على سوء تصرُّفه، هنا يكون العدل قد جُرح. أمَّا إذا كان الحساب على قدر الوزنات وعلى قدر الطاقة، فالعدالة حُفظت واحتُرمت.
5–خذوا منه الوزنة واعطوها لمن له الوزنات العشر
في هذا الكلام تأكيد على أنَّ الله العاطي لا يريد استرجاع شيءٍ ممَّا أعطاه. فهو الكريم المطلق الكرم، لا يعطي ليأخذ، بل يعطي ليزداد خيرك بحسن تدبيرك. أمَّا قوله: يؤخذ من الكسول الشرِّير ما يظنُّه أنَّه له، فيعني أنّ الإنسان الذي يعتقد نفسه صاحب الوزنات ويتصرَّف بها على أنَّه مالكها وليس وكيلاً عليها، فسوف تؤخذ منه، لا ليستردها الله، بل ليفهم هذا الكسول وسواه، أنَّ ما يظنُّه له ليس له، بل للسيِّد الذي أعطاه إيَّاه. فيزداد خير الخيرين الناشطين في حقل الربِّ، في هذا العالم، وينالون حظَّهم كاملاً من السعادة في العالم الآتي.