كان يجب على فريق الرئيس ميشال عون، السياسي والحزبي، التنبّه جيداً الى أبعاد اللعبة على وتر الحقوق المسيحية في الدولة. الأمر هنا لا يتعلق بغبن واقع كان يجب إزالته بأسرع وقت ممكن، بل بما يرافق عملية من هذا النوع، من تعبئة تأخذ طابعاً كريهاً. وهو ما جرّبه اللبنانيون، عندما خاض زعماء المسلمين في مرحلة ما بعد الحرب، الحروب المفتوحة تحت عناوين تخصّ حقوق طوائفهم ومذاهبهم المهدورة. وخلال ربع قرن بعد انتهاء الحرب الاهلية، كانت النتيجة تهيئة أرضية طائفية ومذهبية مقيتة، تتيح لكل من يريد العبث بأمن الناس وحقوقهم الفرصة تلو الفرصة.
الأمر الآخر هو أن شعار «استعادة الحقوق» يصبح فضفاضاً في هذه الحالة، ولا نعود نعرف التمييز بين حقوق في مناصب أو حقوق في سلطة القرار أو حقوق في وظائف القطاع العام أو حقوق في التركيبة الاقتصادية للبلاد، علماً بأن الذي برز الى السطح، في كل الحملات التي قامت بعد انتخاب العماد عون رئيساً، ركزت على الجانب السياسي المباشر. وليس أمراً صعباً العودة الى أرشيف الأشهر العشرة المنصرمة، التي حفلت بكل أنواع الكلام الذي لا يعيد الحقوق الاساسية للمسيحيين كمواطنين ينشدون العدالة مثلهم مثل بقية المواطنين، وخصوصاً المسلمين منهم، الذين اكتشفوا، بعد ربع قرن، أن المعارك التي خيضت باسم حقوقهم لم تحقق إلا الجزء اليسير، بينما جرى بناء زعامات وحواشيها في الاقتصاد والأمن والسياسة والاجتماع.
مناسبة هذا الكلام أن التعبئة السياسية التي قامت أعطت انطباعاً بأن ما جرى في اتفاق الطائف كان أمراً مفروضاً على المسيحيين، وأنهم متى أتيح لهم، يريدون العودة الى الزمن السابق. وهو ما أتاح لزعامات إسلامية إطلاق تعبئة مقابلة تحت عنوان عدم العودة الى الوراء، علماً بأن غالبية القيادات الاسلامية ما كانت تريد من هذه الحملة سوى استنفار عصبيات شعبية، رداً على حالة الترهل التي أصابت قواعدها الاجتماعية، وعلى مستويات الامل الكبيرة التي وضعها المسلمون قبل المسيحيين في عهد الرئيس عون.
قضية الحكم على المقاوم حبيب الشرتوني الذي نفّذ حكم الشعب باغتيال الخائن بشير الجميّل، تفتح الباب على كل المستور أو المكبوت لدى قيادات مسيحية لا تزال تسعى للعودة الى الخلف، وخصوصاً الفريق الذي يتزعمه سمير جعجع، الذي صار يتعامل مع بشير الجميّل على أنه البطل الشهيد، علماً بأن جعجع لم يكن من حلقة بشير أبداً، كذلك فإن نجمه سطع بين قواعد ومقاتلي «القوات اللبنانية» لكونه كان ينتفض ضمناً على الإقطاع المسيحي، سواء النافذ في المناطق أو حتى المسيطر على الجبهة اللبنانية وأحزابها. حتى إن كثيرين من قدامى «القوات» الذين لم يعودوا الى صفوفها خلال السنوات العشر الماضية، يعرضون ضمن أسبابهم أن جعجع قد تخلى عن هذه الخصوصية لمصلحة القبول بقواعد اللعبة السياسية في لبنان. وصار محكوماً بمعايير مختلفة في علاقته بقواعده وكوادره، مع سيل من الانتقادات لترك زوجته، ابنة الإقطاع عينه، تتحكّم في مفاصل كثيرة في حزب «القوات»، وأنها وقفت خلف حملة «تطهير» الجسم من عناصره السابقين بحجة التخلي عن العسكرة وتمدين التنظيم وجعله أكثر قرباً من نسق السياسة اللبنانية. وهي هنا تطمح، كما يسعى جعجع نفسه، الى انتزاع اعتراف حقيقي من القيادات التقليدية للمسيحيين سياسياً واقتصادياً واجتماعياً، وخصوصاً في بيروت وجبل لبنان، بانضمامها إلى «نادي الحاكمين».
لكن جعجع لا يضيره اليوم استعادة كل شعارات بشير الجميّل وكل أدواته، من دون أن يلزمه ذلك بتبنّي ترشيح نديم، ابن بشير، على لائحة تدعمها «القوات» في بيروت، ومن دون أن يكون مضطراً إلى أي تنازل أو تحالف مع حزب الكتائب. لكن جعجع يريد من خلف حكم المجلس العدلي، أن يستفيد من التعبئة القائمة في الشارع المسيحي، من أجل استعادة عصبية مسيحية عامة، يعتقد هو أن خراجها عائد اليه، وأنه سيكون من يقطف ثمارها في ظل مناخات التوتر التي تشهدها البلاد والمنطقة. وهو في هذه الحالة، لا يحيد عن تقليد تربى عليه في بناء تحالفات مع الغرب وأعوانه من العرب. وفي هذا السياق تحديداً يرفع شعار الدفاع عن الإخوان المسلمين أو التيارات السلفية وحكومات القهر في دول الخليج، وفي مقدمتها السعودية، بينما لا يقبل هو، أو أي من أفراد قيادته أو كوادره بناء علاقة طبيعة مع مسيحيي سوريا والعراق، إن كان هؤلاء يقفون الى جانب دولهم وحكوماتهم.
اليوم، لا يجد جعجع حرجاً في الإقرار بارتكابه مجزرة إهدن. وهو يقبل بحكم المجلس العدلي الذي بني على إفادات تحقيق أولية انتزعت من الشرتوني يوم كان معتقلاً لدى الحكم الذي كانت «القوات» والجبهة اللبنانية تسيطران عليه. وهو لا يريد لنا أن نتذكر كم هو عدد الضحايا من المدنيين المسيحيين الذين قتلوا انتقاماً في الايام التي تلت تصفية بشير في مناطق سيطرة «القوات»، أو المجازر التي ارتكبت بحق أبناء بيروت والمخيمات الفلسطينية. كما لا يريد لنا جعجع، وفريقه، أن نعود الى تحقيقات المجلس العدلي نفسها بخصوص اغتيال داني شمعون ورشيد كرامي، وإلى عمليات إجرامية قادها بشير في المناطق المسيحية خلال وجوده على رأس «القوات».
ما قام به المجلس العدلي قبل أيام ليس سوى نسخة عن عمل الأجهزة الأمنية والقضائية الواقعة تحت رحمة السلطات الحاكمة. وليس ما يبرّد الأجواء، إن كان هناك من يهتم لهذا الامر، إلا أن يُصدر الرئيس عون قراراً بعفو يبطل مفعول العار الذي وصم المجلس العدلي جباه اللبنانيين به. وغير ذلك، فإن مسؤولية الرئيس عون، وفريقه السياسي والحزبي، ستكون أكبر، عندما يجري سحب الشارع المسيحي، وباسم الدفاع عن الحقوق والتراث، إلى خيارات سمير جعجع ومن يشبهه.