الحرب الكونية على سورية لم تنتهِ بعد. تراجعت مفاعليها مع اندحار «داعش» في مناطق سيطرته في شرق سورية ووسطها، لكنّها ما زالت مستعرة ومرشحة للمزيد. تراجعُ وتيرتها العسكرية، بفضل انتصارات الجيش السوري وحلفائه، حَمَل الأميركيين على بلورة استراتيجية أكثر تشدّداً أطلقها رونالد ترامب أخيراً.
ما أعلنه الرئيس الأميركي بعناوين عريضة فصّله قائد القيادة الوسطى في جيشه الجنرال جوزف فوتيل في خطابٍ أمام «المجلس الوطني العربي – الأميركي» بعد أسبوع على إعلان رئيسه استراتيجيته المتشدّدة حيال إيران. قال من دون مواربة: «إنّ الشرق الأوسط كان وما زال وسيبقى مهماً بالنسبة الينا. لكن إيران تسعى إلى بناء محور من طهران إلى بيروت وتعزيز نفوذها العسكري في سورية والعراق واليمن». تعهّد العمل مع «شركاء محليين» للتصدّي لما أسماه «الدور الخبيث لإيران»، وأكد رفض واشنطن شراكةً مع الرئيس السوري بشار الأسد.
مَن هم شركاء أميركا المحليون؟
فوتيل تحدّث عن نهج إقليمي يستند إلى العمل مع الشركاء على الأرض لتحقيق المصالح المشتركة. لفت تحديداً إلى تجربة تحرير الموصل، منوّهاً بالقوات العراقية التي حرّرت تلعفر والحويجة في أقلّ من أسبوعين، ومشيراً إلى «الصورة الراسخة في ذهنه لرئيس الوزراء حيدر العبادي بين جنوده وبين الناس معلناً الانتصار … هذا ما نسعى إليه، أن نكون قيّمين لحلفائنا».
العبادي وقواته العسكرية النظامية هم، إذاً، «شركاء أميركا على الأرض»!
في سورية، تحدّث فوتيل عن شراكة موازية، لكنها أكثر صعوبة لمحاربة «داعش». قال: «لن نكون شركاء مع الأسد الذي يحارب «داعش» بدرجات متفاوتة مع حليفتيه روسيا وإيران». حذّر من أنّ طهران تحاول تعزيز نفوذها العسكري في سورية والعراق واليمن لإعادة «بناء محور طهران – بيروت». ولم يتأخر عن تحديد شركاء أميركا في سورية بتشديده على أنّ واشنطن تعمل هناك من خلال «تدريب قوات كردية وعربية وتجهيزها لمحاربة «داعش».
شركاء أميركا العرب في سورية هم «جيش العشائر»، و«أسود الشرقية»، و«قوات أحمد العبدو»، وفصيل «مغاوير الثورة» الناشطون في «منطقة الحظر» في محيط قاعدة التنف، حيث توجد قوات أميركية على مقربة من الحدود السورية العراقية.
شركاء أميركا الكرد في سورية هم «قوات سورية الديمقراطية – قسد» المتعاونة مع القوات الأميركية الموجودة في أنحاء مختلفة من محافظتي الحسكة والرقة، ولها فيهما قواعد ومطارات وأسلحة ثقيلة. الأميركيون ساعدوا «قسد» على إقامة كيان إداري لامركزي في تينك المحافظتين يمكن بسهولة تحويله إقليماً للحكم الذاتي شبيهاً بإقليم كردستان العراق، كما دفعوا «قسد» إلى مسابقة الجيش السوري وحلفائه للسيطرة على بعض حقول النفط والغاز شمال شرق محافظة دير الزور.
بات واضحاً أنّ الولايات المتحدة مصمّمة على التمسّك بقواعد تمركز قواتها في العراق وسورية. الخبير في مركز الأمن القومي الأميركي نيكولاس هيراس أبلغ صحيفة «الحياة» «انّ أولوية واشنطن تتمثل في إبقاء وجود عسكري لها في العراق وسورية وبناء تحالفات لضمان هذا الأمر». فسّر دعم إدارة ترامب للعبادي في معركة كركوك ضمن هذا الإطار، وكذلك «لتعزيز موقعه وتمكين واشنطن من البقاء عسكرياً، في مقابل التحالف مع القوى الكردية في سورية لإبقاء … القوات الأميركية هناك».
هذا التركيز للوجود العسكري الأميركي في بلاد الرافدين وبلاد الشام حَمَل القيادة الإيرانية على التحسّب لأغراضه السياسية والاستراتيجية. في هذا السياق، أوفدت طهران رئيس أركان جيشها اللواء محمد باقري حاملاً رسالة من المرشد الأعلى السيد علي خامنئي إلى الرئيس الأسد، وأفكاراً وخططاً للبحث مع أركان القيادة العسكرية السورية.
كيف ستردّ سورية وإيران وسائر قوى محور المقاومة على مخططات أميركا وإسرائيل في المنطقة؟
من الواضح أنّ قوى المقاومة منخرطة في صراع سياسي وعسكري مرير مع «داعش» و«النصرة» بما هما أبرز أدوات أميركا في المواجهة الدائرة منذ نحو ست سنوات. وليس من شك في أنها لاحظت اتجاه واشنطن إلى مزيد من التشدّد حيالها بعد الانتصارات التي حققها الجيشان السوري والعراقي وحلفاؤهما ضدّ «داعش» ومَن يقف معه ووراءه. لذا من المتوقع أن تزيد إيران من دعمها لسورية في مجهودها السياسي والعسكري لاستعادة أراضيها التي تخضع لسيطرة «داعش» أو لسيطرة أميركا وحلفائها من عرب وكرد محليين. هذا التوجّه ربما يؤدّي إلى نشر مزيد من قوات الحرس الثوري وحلفائه في سورية بغية تحقيق هدف استراتيجي بالغ الأهمية هو تحرير بلدة البوكمال السورية وبلدة القائم العراقية الحدوديتين من «داعش» المدعوم من طرف القوات الأميركية الموجودة في قاعدة التنف، كما من قواعدها في محافظتي الرقة والحسكة. كلّ ذلك من أجل تأمين إقامة جسر بري لوجيستي يربط طهران ببيروت عبر العراق وسورية.
إلى ذلك، ثمة تحسّبٌ سوري وإيراني لتصريحات ملتبسة أدلى بها فلاديمير بوتين خلال الدورة الـ 14 لمنتدى فالداي الدولي للحوار في مدينة سوتشي الروسية. فقد أشار الرئيس الروسي الى انّ «إقامة المناطق الأربع لخفض التصعيد لن تُسفر عن تقسيم سورية، رغم أن هذا التهديد موجود بصورة عامة». هل كان بوتين يلمّح في تصريحه الى منطقة سيطرة «قسد» في الحسكة والرقة وإلى منطقة سيطرة «النصرة» والجيش التركي في محافظة ادلب؟
لعلّ ما يزيد دمشق وطهران ارتياباً اقتراح بوتين بأنّ «الخطوة التالية بعد إنشاء هذه المناطق تتمثل في تشكيل مؤتمر شعوب سورية لمصالحة الحكومة والمعارضة، والتخطيط لضمّ ممثلين لهما، وكذلك لجميع الطوائف العرقية والدينية».
هل في سورية «شعوب»؟ وهل حكومة سورية وفصائل المعارضة تتكوّن من شعوب تقوم بتمثيلها؟ وما الفارق بين هذه المقاربة للتسوية السياسية التي تنادي بها موسكو والمقاربة الطائفية التي اعتمدتها أميركا العام 2004-2003 عند كتابة دستور العراق وإقراره؟
لا شك في أنّ تصريحات بوتين تبعث على القلق، وأنها تتطلّب، في الأقلّ، توضيحات مُقنعة. ولعلّ قادة سورية، ومعهم قادة إيران، سيتّجهون جرّاءها إلى التشدّد في التمسك بسياسة استعادة جميع مناطق سورية التي تسيطر عليها تنظيمات إرهابية أو فصائل أخرى متمرّدة تحرّضها وتدعمها الولايات المتحدة، والى وجوب التعجيل في تحريرها وبسط سيادة سورية عليها قبل البحث في إقامة مؤتمر للسلام في جنيف أو غير جنيف في المستقبل المنظور.
الأهمّ قبل المهمّ.