تمَّ تكريمه في اليوبيل الذهبي(1) عندما بلغ الخامسة والسبعين من عمره، وتأتي هذه الذكرى بعد خمسة وسبعين سنة مضت على رحيل علامة العلويين الشيخ سليمان الأحمد (قدس الله روحه)(2) عن عمر قاربَ الثمانِ والسبعين سنة وصفها تلميذه العارف بالله المُقدس الشيخ عبد اللطيف إبراهيم (1905- 1995): أنْتَ موسوعةٌ من العلم والآدابِ والمُبهماتِ والتفسيرِ، كُتِبَتْ فِيْ زهاءِ سبعين عاماً وَثَمانٍ بأحرفٍ من نُوْرِ(3)، وبين اليوبيلين الذهبي والماسي: الكثير من العبر والمآسي.
وبدايةً، فقد ارتبط اسمان ببعضهما، لا يفترقان أبداً عندنا، فأينما ذُكر أحدهما كان لاحقاً به صاحبه، وهما الأمير المكزون السنجاري وشارحه الأكبر علامة العلويين. وقد تناول دراسة الأول أشهرُ أربعةِ كُتَّابٍ علويين:
1ـ أدونيس: نظرية الهُو هُو بين الحلاج والمكْزُون السنجاري(1954).
2ـ حامد حسن: المكزون السنجاري بين الإمارة والشعر والتصوف والفلسفة (4أجزاء، 1970)
3ـ أسعد علي (معرفة الله والمكزون السنجاري: رسالة دكتوراة في الفلسفة من الجامعة اليسوعية 1972)
4ـ أحمد علي حسن: (رعفات قلم، والمكزون السنجاري في حمين)... وآخرون جُدُد.
وثانياً، عندما نتكلم عن الشيخ سليمان الأحمد فإننا نتكلم عن نهضة أمةٍ في رجلٍ واحدٍ، انتقلت به من فرقةٍ هامشية على مسار الحاضرمن حولها إلى كيانٍ كبيرٍ مؤثرٍ في محيطه، كل محيطه، وما بعد بعد محيطه ربما، حتى صارت مثار انقسام العالم كله بين مؤيد ومعارض.
ولا نغالي أبداً إذا قلنا لولا وجوده في حياة العلويين وظهوره الألمعي في مطلع القرن العشرين لما قامت لهم قائمة تذكر لا أدبياً ولا سياسيا، وما نتج عنهما في الاجتماع والدين.
ولا يمكن لأي باحثٍ أو مؤلفٍ عن العلويين إلاَّ وإن يَمُرَّ على سيرة هذا المصلح الكبيرِ ممراً إلزامياً وإلاَّ أُعتبرَ عمله أبترَ، لماذا؟. لأنَّهُ أخلصَ لله النيَّة، وما كان لله ينمو، فنما زرعه وزكا غرسه، فأنجب أولاداً كباراً: ذُكوراً وإناثاً، وخَلَّفَ عدداً لا بأس به من تلامذةٍ نجيبين صار كلٌّ منهم مرجعيةً قائمةً بنفسها(4)، دون الوصول إلى الرجاء المنشود منهم بتأسيسِ مرجعية موحدةً ترعى الشؤون الدينية ومتطلبات الطائفة المتراكمة.
نحو اليوبيل الذهبي
وُجِدَ في زمنٍ، عَفَى عليهِ كُرُورُ الأَيَّامِ: مِنْ دِيْنٍ أَفْسَدَتْهُ الرِّجالُ، وَمَجْدٍ ضَيَّعَتْهُ أَدْعياؤهُ؛ وَعِلْمٍ لَعِبَتْ بِهِ أَيدي المُتأوِّلين، وفقهٍ أخذَ بِزمامه جماعةٌ مِنَ المُتَمَحِّلين، وشرذمةٌ من المتدجلين؛ قاسوه بآرائهم ، واستعملوه لأغراضهم وأصدائهم، فحوَّلوه إلى مجموعة خرافات، قاسوا عليها ما ألفوه من شتَّى العادات(5). هذا وصفُ شيْءٍ من زمانه، فكيف كانت بيئته كمكانٍ وسبيل معيشةٍ؟.
كان اعتزال طائفته، في الجبال الوعرة المُقفرة، فلا سُنيٌّ ولا شيعيٌّ ولا يهوديٌّ ولا نصرانيٌّ ينقلُ إليهم حضارة أُمَّتِهِ وآداب مِلَّتِهِ، فأُولئك يستوحشون منهم ولا يأمنون على حياتهم وأموالهم بمخالطتهم والسكنى معهم، وهؤلاء لا يرون منهم إلاَّ بُغضاً وعداوةً وإيقاعاً بهم عند الحُكام...(6). فكيف لهذا المخلص الوحيد أن يهتديَ إلى السير إصلاحاً وتهذيباً؟. لقد سارَ فينا: سَيْرَ الحُكماءِ الإلهيين، وَالعلماء الرَّبانيين: بِإقناعِ العُلماء، وَوَعظِ الجُهلآءِ(7). ففي تكريمه وصفه السيد عبد الحسين شرف الدين الموسوي بأنه الشيخ العبقري المذهب(8). فأين تتجلى هذه العبقرية؟.
تظهر بداية في تلك النظرة الحالمة لتحطيم كل قيد فكري حوله، ألم يقل: خَلُّوا العقولَ تجولُ في مِضْمارِها فالشرُّ كلُّ الشرِّ في التضييقِ(9).
وتطورت هذه النظرة مع بلوغه ونبوغه لتصبح رؤيةً متكاملة في الاجتماع والسياسة والأدب، لتستنهض همم أبناء قومه القابعين في جبالهم للوصول إلى القمم الحضارية، فأفرغ وسعه في استثمار كل ممكن أمامه مهما كان بسيطاً وفي أكثر الأحيانِ نادراً.
فابتدأ بالصحفِ السيارة والمجلاتِ العلمية فاشترك بها وراسلها، وهو بذلك يكون أولَ صحفيٍّ ناطقٍ باسم العلويين تاريخياً، وتكفي شهادة الشيخ أحمد عارف الزين صاحب جريدة العرفان اللبنانية في رثائه معترفاً بفضله على الجريدة، أمَّا مُساهمته في مؤازرة العرفان وصاحب العرفان فحدِّث عن البحر ولا حرج(10).
كما ويأتي سؤال رئيس المجمع العلمي للغة بدمشق المفكر العربي محمد كرد علي عن العلويين، ثُمَّ الطلب إليه أن يكون عضوا فيه أكبر شاهدٍ على مرجعيته اليتيمة لطائفته(11).
ثم أكثر من رحلاته الداخلية والخارجية(12)، وبعدها تفرغ لتعليم الطلاب، حتى وصلت به طائفته إلى مرحلةٍ شارك بحفل تأبينٍ لأحد علمائنا (أكثر من خمسين شاعراً.. وأكثرُ هؤلاء الشعراء من تلك القرى المعزولة عزلاً سياسياً وطائفياً في حقبةٍ طويلةٍ من التاريخ...)(13).
وأما سياسيا، فلم يغفل عن متابعة الأحداث والمجريات السياسية المتسارعة من حوله، فثار لاحتلال إيطاليا لليبيا، وأبكاه قصف الأسطول الإيطالي لمدينة طرابلس الغرب (1911) فقالَ، جَيشَ "روما" فقدْتَ كُلَّ حنانِ أوَ لَيسَ الإنسانُ كالحيوانِ
أفلا نذرفُ الدُّموعَ دِماءً لِمُصابِ الإسلامِ والإيمانِ
هذا بعد أن بكى مدينة مسينة(Messina) الإيطالية عندما ضربها زلزال مدمرعام 1908 م، فقالَ، قد بكينا لخطبِ (مسينة) إذْ أخنى عليها الزمانُ بالحدثانِ
هو يبكي على الإنسان أينما كان، بغض النظرِ عن بلده وانتمائه، فنراه يرثي الأمير الشهيد محمد أرسلان نائب اللاذقية في مجلس "المبعوثان"(14) الذي لقي مصرعه في الحركة الارتجاعية المعروفة بحادثة31 آذار(15):
عَظُمَتْ محنةٌ وجلَّ بلاءَ بِمُصابٍ قدْ طَبَّقَ الأرجاءَ
فقدْ فقدْتُمْ مُحَمَّداً، وهو كالسَّيْفِ مُضَاءً، وَكالشِّهابِ ضِياءَ
يا شهيدَ الحُرِّيَّةِ الحُرّ، والدُّستور، نلْتَ المُنى وحزْتَ العَلاء
وعيِّن رئيساً لمحكمة الاستئناف والتمييز الشرعية سنة 1918، في عهد الملك فيصل، حتى إذا احتلت فرنسا سوريا استقال من منصبه رافضاً كل عرضٍ ومساومةٍ للرجوع عنها.
فقام المجاهد الأول ضد الفرنسيين الشيخ صالح العلي(قدسه الله) بثورته التي كانت انعكاساً لذلك الوعي السياسي الذي ساهم فيه الشيخ سليمان الأحمد، فدعم ثورة المجاهد وأثنى عليه قائلاً:
والصالحُ الأفعالِ لا بَرِحَتْ لنا تروي رُواةُ الخيرِ عنْ أعمالهِ
وأصدر فتواه الشهيرة الرادعة عندما ألَّبَ المستعمر الفرنسي بعض العلويين بالهجوم على بعض ممتلكات إخواننا الأشقاء، تدعو المجمتع العلوي لنبذ المخربين من أبناء جلدتهم، و هذا ما أسفر عن قلب الحدث الطائفي لنهاية وطنية، نقتبس منها: "إن هذه الفوضى خارجة عن الدين والإنسانية معا، فالواجب على كل من يؤمن بالله واليوم الآخر ويوالي العترة الطاهرة أن يبذل وسعه لإرجاع هذه المسلوبات إلى أربابها، ومن منعته الجهالة والعصبية من الانقياد إلى أمر الله وطاعة المؤمنين، فليُهجر ولا يُعاشر ولا يجوز أن تقبل منه صدقة ولا زكاة ولا يصلى عليه متى مات، حتى يفيء إلى أمر الله. وبما أنه لا قوة لنا على تنفيذ أحكام الشرع الشريف في هذه المسألة، فنحن نفعل ما يجب علينا من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لئلا نقع تحت طائلة الوعيد، فإن المنكر إذا تفشّى عمت عقوبته الحلماء والسفهاء معا، فالعقوبة تقع على الحلماء لترك النهي، وعلى السفهاء لعدم التناسي، وإذا وجد من المشائخ من يتساهل مع أهل الجهالة فهو يعامل معاملتهم. اللهم إننا نبرأ إليك من هذه الأعمال الجائرة وممن يقرها، ولا قوة إلا بالله العظيم](خادم الشريعة الإسلامية المقدسة سليمان الأحمد"(16).
وهكذا كانت حياة علامتنا الكبير صاخبة بالأحداثٍ، مليئة بالجهاداتِ والنضالاتِ، ولم يترك بابَ حياةٍ أو علمٍ ألاَّ وطرقه ومن ثم فتحه.
ولا تسعنا هذه المقالة لتبيان محاسنه وتعدادها، خصوصاُ وقد خاطبه زكي قنصل(17):
عفواً، إذا عَجزتْ يراعةُ شاعرٍ عن وصفٍ كلِّ خصالكَ الغَرَّاءِ
فالبحرُ أفْتنُ منظراً وأجلُّ منْ أنْ يُجتلى بقصيدة عصماءِ
والبدرُ أروعُ وهو في عليائه منْ أن تُصوِّرهُ أناملُ رائي
وصولاً إلى ذكراه اليوم
كفى "سُليمان" فخراً أنَّ ما صنعتْ يداهُ مِنْ مأثراتٍ غير مُندثرِ
لا زالَ من سُحُبِ الرُّضوانِ مُنْهمِرٌ عليهِ يغدقُ بالآصالِ والبكُرِ(18)
استمرَّتِ التهضةُ التي أيقظها في الجبل العلوي متوقدة في تلامذته ومريديه، الذين رُبَّما لم يستطيعوا أن يحافظوا على تلك المرجعية الدينية الضخمة التي خلَّفها لهم أستاذهم الكبير، أو بالأحرى لم يُتاح لهم تشكيل قيادةٍ دينية موحدة تتابع العناية والاهتمام والتطوير لذلك الإرث الهائل من العلاقات والأدباء والتلامذة والمريدين والفتاوى والكتب. ومرجوع ذلك لأسباب قد فرضتها السياسة والتحولات الاجتماعية والديموغرافية.
هذه المرجعية الدينية التي بدأ وهجها يخفت تدريجيا مع استمرار الصعود السريع للأفكار السياسية والتيارات العلمانية التي أخذت المجتمع إلى عادات وتقاليد وأفكارٍ لا تتناسب في كثيرٍ منها مع الوجهة الشرعية، التي، حرص علامتنا(قدسه الله) على تثبيتها وترسيخها طيلة حياته دفعاً للإفتراءات ودحضاً للإتهاماتِ.
ولكن هذا الذي حصل، وبقي العلويون بلا مرجعية دينية طيلة 75 سنةٍ، يعانون منها من غياب المصلحين الدينين. واختفى ذلك النور العلوي المؤثر.
والكثير منهم يقنع نفسه بالشعارات الوطنية البديلة عن الالتزام الديني، كأنَّ هناك اعتراض بين الأمرين، بين التزامك الشرعي والتزامك الوطني؟.
لكنَّ الطائفية البغيضة التي لطالما فرَّ منها العلويون جعلت كثيراً منهم يبتعدون عن الالتزام الديني، فأساؤوا إلى طائفتهم، رغم أنهم أجادوا في الدفاع عن وطنهم أفضل بكثير من كثيرٍ ملتزمين. وفي هذا تناقض عجيبٌ. قد تكون الأفكار العلمانية أكثر تأثيراً من تلك النفوس التي مَلَّتِ التكفير في غياب المرجعيات الجاذبة؟.
وفي النهاية، مدح كُلٌّ من الشاعرين: زكي قنصل، واللبناني حليم دموس، للعلامة(قدسه الله) بقصيدةٍ كان ختامها عبرة، فأيهما ستصح؟
خاتمة حليم دموس(19):
أبقى الزمانُ شُعاعاً مِنْ حضارتهِ كالشمسِ تُبقي حِبالاً وهي تحتجب
أمْ خاتمة زكي قنصل:
عبثاً تُبشّرُ بالمحبّةِ والإخاء ما دامَ في الدُّنيا رَسول عِدَاءِ؟
وسلامٌ على طيبِ الكلامِ
(1)في 14/10/1938، برعاية محافظ اللاذقية إحسان الجابري، نشربقلم الأستاذ محمد مجذوب، وتصدير للمجتهد الكبيرالسيد عبد الحسين شرفالدين الموسوي ، ونشر عام- 1938 ممطبعة العرفانصيدا.كما تمَّ تكريمه في الأرجنين في محافظة توكومان(Provincia de Tucumán في (27 حزيران 1943).
(2)(ولد 1863) وانتقل إلى جوار ربِّه في ( 18 تشرين أول 1942).
(3)الإمام الشيخ سليمان الأحمد: عضو المجمع العلمي العربي، جمع وتأليف وتعليق ولده الدكتور علي سليمان الأحمد، ص 551، دار الفرقد ، ط2/2010.
(4)يُحدِّثنا تلميذه الشاعر الكبير الشيخ علي سليمان عبد الله (الصفصافة)عن(1904 - 1974 م)حالهم معه(قدسهم الله):
أتناسيت مُدَّةً كُنْتَ فيها تغرسُ العلمَ في الفُؤاد الخصيب وترانا من حولك الكل ظامين إلى وردك الشهي السكوبِ
(5)و(6)و(7)من ترجمته بقلم قاضي قضاة الشرع الشريف، تلميذه الشيخ المقدس عبد اللطيف أحمد سعود( )، ديوان السفينة ص 5+6، مؤسسة البلاغ.
(8)اليوبيل: 7.
(9)قصيدته (الكامل): في الحث على الإستنهاض، ديوانه السفينة ص 342، مؤسسة البلاغ.
(10)الإمام الشيخ سليمان الأحمد، م س، 543.
(11)خطط الشام، ج 6، 262؛ وطُلبَ إليه أن يكون عضوا في المجمع العلمي في 1925.
(12)أهمها رحلة إلى كيليكيا وهو ورفيقه المقدس ابراهيم عبد اللطيف سنة1899، والثانية إلى بيروت فصيدا سنة 1904، وتعارفا بالشيخ محمد الحسين آل كاشف الغطاء.
(13)الشاعر الدكتور السيد مصطفى جمال الدين(ت 1996): العقد النظيم من مدائح وتأبين ومراثي الولي المغفور له الشيخ صالح ناصر الحكيم (1862- 1940) : ص 14، توزيع مكتبة الشرق الجديد ، دمشق .
(14)مجلس المبعوثانMeclis-iMebusan)) :هو البرلمان العثماني أو المجلس النيابي، أسسهالسلطان عبد الحميدالثاني فأجريت انتخابات عامة لأول مرة في التاريخ العثماني، وأسفرت عن تمثيل المسلمين في مجلس المبعوثان بـ71 مقعدًا، والمسيحيين بـ44 مقعدًا، و4 مقاعد لليهود.
(15)حادث 31 آذار (بالتركية: 31 Mart Vakası أوحادث 31 مارت)، هوتمرد حدث في 1909 من أنصار السلطان عبد الحميد الثاني في اسطنبول ضد الانقلاب العثماني المضاد الذي حدث في آذار.
(16)ديوان السفينة:16، الإمام الشيخ سليمان الأحمد: 30.
(17)زكي قنصل(1916- 1994): شاعر سوري مهجري، قصيدته : بوق اليقظة، الإمام الشيخ سليمان الأحمد: 531.
(18)الشيخ سليمان بن محمد بن علي ظاهر العاملي (1873 - 1960). رجل دين ومؤلِّف وأديب وشاعر ومؤرِّخمنجبل عامل، له إسهامات غنية في المجالات الفكرية والسياسية والاجتماعية وغيرها. وكان عضوالمجمع العلمي العربي بدمشق، الإمام الشيخ سليمان الأحمد: 562.
(19)حليم دموس(1888- 1957) من مدينة زحلة،لقب بـ«حسان» تيمنًا باسم شاعر الرسول(ص) حسان بن ثابت، الإمام الشيخ سليمان الأحمد: 521.