حتى الاسبوع الماضي كانت شخصيات سياسية تُعتبر من الأركان في قوى "8 آذار" تدافع عن تصرفات وزير الخارجية جبران باسيل. كانت تلك الشخصيات تُبرر كل خطوة يُقدم عليها رئيس التيار "الوطني الحر"، وتضعها في إطار التكتيكات التي لا تخالف العناوين الاستراتيجية التي "يؤمن بها باسيل في إطار علاقته بمحور المقاومة"، الى درجة ان تلك الشخصيات كانت ترى رئيس التيار "الوطني الحر" جزءاً من المنظومة السياسية للمحور المذكور. فجأة، تبدّل المشهد بعد مشاركة باسيل بإحتفال الأشرفية الذي أقيم إحتفاء بحكم الاعدام الغيابي الصادر بحق قاتل رئيس الجمهورية الأسبق بشير الجميل حبيب الشرتوني.
الشخصيات نفسها إما تعمّدت الصمت إزاء إبتهاج العونيين، أو إنتقدت الخطوة الباسيلية بخجل. هنا لا يتحمّل وزير الخارجية أي مسؤولية. لم يقل تياره يوماً أنه خرج عن قناعاته، خصوصاً أن "بشيريين" يشكلّون نسبة كبيرة من محازبي التيار الآن. لم يكن بالإمكان أن يتفرج باسيل على "القوات" و"الكتائب" يحتفلون "بإنجاز" يعتقد العونيون أن الفضل يعود لهم في تحقيقه. مرّت عقود وعهود وتولى سدة الرئاسة الاولى خمسة رؤساء جمهورية منذ إغتيال الجميّل، ومن بينهم شقيقه أمين، ولم يحقق أي منهم "هذا الانجاز" في عهده، لكن "العدالة أخذت مجراها في العهد الحالي"، وفق توصيف محازبي التيار البرتقالي.
لمِ العجب عند قوى "8 آذار"؟ صحيح أن العونيين يؤمنون الآن بالعداء لإسرائيل، لكن بالنسبة اليهم كان بشير رئيساً للجمهورية ورمزاً مسيحياً وشخصية "إضطرت للتعامل مع إسرائيل لحماية المسيحيين آنذاك من الفلسطينيين والحركة الوطنية". كان المزاج المسيحي العام ضد الفلسطينيين، بإستثناء المنتمين الى الاحزاب القومية واليسارية والتقدمية التي خرج من صفوفها الشرتوني ورفاقه السوريون القوميون الاجتماعيون.
صحيح أن الحُكم وردود الفعل من الجانبين الآن أعادوا نكء الجراح الماضية، بعدما ظنّ اللبنانيون أن الزمن طواها، فإستُعيد مشهدُ ألإنقسامات التي سادت منذ إحتلت إسرائيل أراض لبنانية مرورا بالاجتياح وصولا الى التدخل في شؤون لبنان وخرق سيادته وخلق مساحات ولاء فيه، وكأننا نعيش في اعوام الثمانينات. لكن أيضاً ابرزت تلك الأجواء هشاشة التحالفات الحالية المبنية على مصالح آنية.
ماذا تقول القوى التي شكلت تحالف "8 آذار" أو "14 آذار" إزاء ما شهدته الأيام الماضية؟ صفحات التواصل الاجتماعي كانت تدل على وجود ازمة مفاهيم وعقيدة سياسية بين تياراتها وقواها الموزعة على جبهات طائفية تارة أو مذهبية تارة أخرى، أو بحسب المصالح، تعكس ما هو حاصل في يوميات السياسة اللبنانية من مفارقات لافتة.
محطة الحُكم القضائي وردود الفعل هي عينة من عينات سياسية لبنانية، تفرض السؤال: من يتحالف مع من؟
أعلن العونيون تبنيهم للحكم القضائي بحق الشرتوني وإحتفلوا علناً به، بينما كانت قوى حزبية في "14 آذار" تضع كل قوى " 8آذار" في قفص الاتهام. هنا إجتمع "التيار البرتقالي" مع "القوات" مع "الكتائب" في مشهد جرى تصنيفه انه ضد كل من يقف وراء إتهام بشير الجميل بالعمالة لإسرائيل أو يعارض وينتقد حكم الاعدام بحق الشرتوني، أي معظم قوى "8آذار" - حليفة العونيين.
أبعد من ذلك، يتحالف "التيار الوطني الحر" مع "حزب الله" إنتخابياً وسياسياً في الحكومة وخارجها، ويرتبط بالمقابل باسيل مع تيار "المستقبل" بحلف حكومي وثيق يجري ترجمته يومياً بالتعيينات والتشكيلات الدبلوماسية والقضائية، او بالنظرة إزاء ملف الكهرباء.
يختلف "المستقبل" مع باسيل بشأن العلاقة مع سوريا وحزب الله، بينما يتفق "المستقبل" مع "القوات" بشأن العنوانين المذكورين، ويختلفا بشأن الملف الحكومي والتعيينات والكهرباء والتشكيلات والمحاصصة.
انها مفارقات لافتة تثبت جميعها أن تحالفات لبنان السياسية هشة، قابلة لاعادة الضم والفرز، ومبنية على مصالح آنية لا أفق لها. على هذا الاساس تبقى التحالفات الانتخابية مفتوحة على كل الاتجاهات على وقع اللعب على كل الحبال، فهي ليست تحالفات مشاريع سياسية استراتيجية وازنة ودسمة، بقدر ما هي محاصصات وتوزيع نفوذ. لذلك ستبقى الشعارات المرفوعة عند القوى فضفاضة قابلة للتغيير عند كل محطة ومفترق. هذا ما أكدته على الأقل المحطات السياسية من عام2005 وصولا الى الحُكم القضائي بحق قاتل بشير الجميل.