تَئِنُّ مؤسسة قوى الأمن الداخلي من حِمل السياسة. تشكيلات الضباط متوقفة فيها منذ 13 عاماً، استُعيض عنها بقرارات فصل قبل أن يُجمِّدها، هي الأخرى، نزاع أهل السياسة. وإذا لم يُصدر مجلس قيادتها تشكيلات عامة في اجتماعه المقبل، ستبقى «تشكيلات رستم غزالة» سارية المفعول.
طيف اللواء رستم غزالة لا يزال حاضراً في المديرية العامة لقوى الأمن الداخلي. يصعب تصديق أن آخر تشكيلات عامة للضباط في المديرية الأمنية أبصر النور عام 2004، في عهد المدير العام الأسبق اللواء علي الحاج. تشكيلات الضباط تلك عُرفت بـ«تشكيلات أبو عبدو»، لكونها أُجريت بمباركة من غزالة. لكن نعمة «أبو عبدو» لم تدم. إذ بعد خروج الجيش السوري من لبنان، عجز المديرون العامون المتعاقبون عن إجراء أي تشكيلات.
وحتى اللواء أشرف ريفي الذي كان حاكماً بأمره في فترة سطوة تيار المستقبل على رأس المديرية، لم ينجح في إصدار «أمر نقل» عام. كان فقدان النصاب في مجلس قيادة قوى الأمن يُعطِّل الاتفاق، والخلافات السياسية تُرحّل جلساته، وباتت جميع مناقلات الضباط تجري بموجب «قرارات فصل مؤقت»، يُصار إلى تمديدها بعد ثلاثة أشهر.
ورغم أن اللواء عماد عثمان تسلّم موقعه في آذار الماضي، وفيما تمكنت الحكومة من إجراء تعيينات وتشكيلات في أرفع المناصب في الدولة، إلا أن المديرية العامة لقوى الأمن الداخلي عاجزة عن تعيين ضباط أصلاء في الفصائل والمفارز والسرايا والأقسام والشعب. الغالبية العظمى من المواقع يشغلها ضباط «مفصولون» بموجب قرارات تُمَدَّد منذ عام 2005، ما يضع علامة استفهام كبرى حول قانونية ذلك. فقرارات الفصل ينبغي أن تُستخدم في حالات استثنائية، ولمدة محدودة، لا أن تصبح نمط عمل يدوم 12 عاماً.
يوم 11 تشرين الثاني المقبل، سينعقد مجلس قيادة المديرية. وإذا اقترح عثمان على أعضاء المجلس تمديد قرارات الفصل، فإن بعضهم سيعترضون، وسيطلبون إجراء تشكيلات عامة. ومن «سيتصدّون» لعثمان هم ضباط مسيحيون وشيعة. بهذه الوقاحة تُقال الأمور في المديرية. فالمجلس ليس مجلس قيادة، بكل ما للكلمة من معنى. هو مجلس ملّيّ، تتمثل فيه الطوائف والقوى السياسية. يتألف من 11 عضواً: المدير العام (سني)، شيعيان، سنيان، درزي، وخمسة مسيحيين. نصاب الانعقاد 8 من أصل 11. والرقم 8 هو نفسه اللازم لإصدار أي قرار.
بعد انسحاب الجيش السوري، صارت الحصص الطائفية والسياسية أكثر «وضوحاً» من ذي قبل. بات الضباط يحتمون بالمظلة السياسية ــ الطائفية وحدها، بلا أي اعتبار آخر. ثمة ضابط عام يمثّل طائفته في المجلس، فيخطب ودَّه الضباط من أبناء طائفته. ومن دون الحظوة السياسية أو الطائفية، تُصبح حظوظ الضابط في ارتقاء المناصب الحسّاسة ضعيفة. ثمة مثال حيّ و«مباشر» حالياً. مع اقتراب إحالة قائد الشرطة القضائية العميد ناجي المصري على التقاعد، سيختار النائب وليد جنبلاط الضابط البديل. انتقى رئيس الحزب الاشتراكي العميد أسامة عبد الملك خلفاً للمصري، رغم أنّه ليس «اشتراكياً». ورغم أنّ الضابط درزي، إلا أنّ ثمة «نقمة» عليه من بعض زملائه، لكونه متزوّجاً سيدة مسيحية. ويأخذ عليه المعترضون أنه تزوّج زواجاً كنسياً وعمّد أولاده وانتقل للعيش في كسروان، فيما هناك ضابط آخر، العميد ماجد طربيه، اشتراكي الهوى، وهو، في نظر بعض زملائه، «درزي قح»، و«أحقّ بحصّة الطائفة»! وعلمت «الأخبار» أنّ العميد طربيه زار على رأس وفد كبير منزل النائب وليد جنبلاط في كليمنصو أول من أمس، والتقى نجله تيمور والنائب وائل بو فاعور، ليحتج على اختيار عبد الملك عوضاً عنه، بذريعة أنّ الأقدمية تعزز فرصته لا فرصة عبد الملك.
بهذه الخفة والخطورة، تُدار أمور «المؤسسة». لا وجود للدولة في مؤسسة الدولة. ثمة زعماء طوائف، بيدهم مصير الضباط، ولهم حصص في المراكز، موزعة عليهم بأعراف باتت أقوى من الدستور. يمكن تجاوز الدستور لانتخاب رئيس للجمهورية عام 2008، ولتمرير موازنة الدولة بلا قطع حساب عام 2017، لكن لا يجرؤ أحد على التفكير في تعيين ضابط غير درزي في قيادة الشرطة القضائية، أو ضابط غير ماروني في قيادة الدرك، أو ضابط غير شيعي في الإدارة المركزية، أو غير سني في معهد قوى الأمن. وللأمانة، ليس اللواء عماد عثمان من أرسى هذه الأعراف. هكذا هي المؤسسة. تبدو كذلك منذ الأزل.
الطريق أمام التشكيلات ليست معبّدة بالورود. ثمة الكثير من المطبّات، أولها مطالب «الأعضاء المسيحيين». قرارهم السياسي بات شبه محصور في يد الوزير جبران باسيل. وفي اجتماع سابق للمجلس، طالبوا بـ«حصّة مسيحية» في رئاسات الشعب في المديرية. مجدداً، بهذه الفجاجة كانت الأمور تُقال في اجتماع مجلس قيادة المديرية العامة لقوى الأمن الداخلي. «لسنا (أي المسيحيون)، شركاء في القرار المالي للمديرية. نريد رئاسة شعبة الشؤون الإدارية». ثم قال آخر: «إذا لم تعطونا الشؤون الإدارية، فسنطالب برئاسة شعبة المعلومات». انفضّ الاجتماع بلا اتفاق.
ثاني المطبات، «الأزمة الشيعية». لأن الأمور تُدار بهذه الطريقة، كان على عثمان أن يقصد الرئيس نبيه بري في آذار الماضي، ليستأذنه بتعيين العقيد علي سكينة قائداً للدرك في الشمال، والرائد ربيع فقيه مسؤولاً عن «الأمن العسكري» في فرع المعلومات. «الموقعان شيعيان». يقولها ضباط، و«مسؤولون» سياسيون وأمنيون بكل راحة ضمير. اعترض بري على اقتراحَي عثمان، رغم أنهما من أفضل الضباط. مستشار رئيس المجلس، أحمد بعلبكي أبلغ عثمان بوضوح: «مشكلتنا ليست في الاسمين، لكن بما أنك سألتَنا رأينا، فنحن نفضل تعيين المقدم مصطفى بدران في الأمن العسكري، والعقيد يوسف درويش في درك الشمال». غادر عثمان عين التينة، وأصدر قراره بتعيين سكينة وفقيه، فنزل عليه غضب حركة أمل، من خلال وقف وزارة المالية صرف النفقات السرية لقوى الأمن الداخلي. وهذه النفقات تُستخدم لعدة أهداف: تمويل العمل الأمني لفرع المعلومات وغيره من القطعات، شراء معدات وتجهيزات بلا مناقصات؛ منح جزء منها لضباط المعلومات (وبعض الرتباء والعناصر) وبعض القطعات الأخرى كراتب إضافي، توزيع جزء منها على أعضاء مجلس القيادة لينفقوها بلا أي حسيب أو رقيب.
لا جديد يلوح في الأفق. الشلل مستمر في المديرية إن لم يُسوَّ «الخطأ المرتكب من قبل اللواء عماد عثمان». عين التينة طرحت استبدال العقيد علي سكينة، لكن عثمان يُصرّ على قراره، ويتذرّع ــ بحسب مقربين منه ــ بأنّه يُبعِد قوى الأمن عن السياسة، لكن الطرف الخصم يرى في تصرفات عثمان كيدية: «كيف تنأى بالمديرية عن السياسة، لكنك تُرضي بهية الحريري في الجنوب والقوات اللبنانية في جبل لبنان والتيار الوطني الحر في زحلة، ووليد جنبلاط في كل موقع لضابط درزي، فيما تتبرّع لتسأل الرئيس بري رأيه ثم تفعل عكسه؟».
حل هذه المعضلة لم يعد بيد عثمان، بل عند الرئيس سعد الحريري الذي سيُبادر إلى اقتراح حل على بري. فالمديرية تئنّ تحت ضغط غياب المصاريف السرية منذ 7 أشهر. ويقول ضباط بارزون: «مؤسسة قوى الأمن ليست مديرية أمن الدولة». عديد الأولى يعادل نحو 10 أضعاف الثانية. هذه المقارنة تُستحضر للقول إنّ تجربة وزارة المالية مع «أمن الدولة» على مدى سنتين (وقف دفع نفقاتها السرية جرّاء اتهام مديرها العام السابق جورج قرعة بمخالفة القانون)، لا يجوز أن تتكرر مع الأمن الداخلي. فرغم «خطأ اللواء عماد عثمان، جرّاء انفراده باختيار أسماء اثنين من الضباط الشيعة بعد استشارته مرجعيتهما السياسية»، إلا أنّ حرمان المؤسسة الأمنية، التي يصل عديدها إلى نحو 29 ألف عسكري، من المصاريف له انعكاسات خطيرة قد تشلّ قدرتها على العمل الأمني. إذ من دون المال، لا تستطيع الذراع الأمنية في المديرية العمل بشكل طبيعي. فقد دخلت الأزمة شهرها الثامن، ليبلغ المبلغ المتراكم ثمانية مليارات و٤٠٠ مليون ليرة لبنانية، تُهدَّد المديرية بخسارته إذا انقضى العام الحالي من دون حلّ الخلاف.
المطب الثالث الذي يحول دون التوافق على التشكيلات متصل بعدم قانونية بعض القطعات. فحتى اليوم، لم يُعدِّل مجلس الوزراء مرسوم تنظيم المديرية، بما يتيح تحويل فرع المعلومات إلى شعبة، ومكتب مكافحة الإرهاب إلى قسم (هذا القسم لا يحمل من مكافحة الإرهاب سوى الاسم)، وإنشاء مكتب مكافحة الجرائم الإلكترونية وحماية الملكية الفكرية. ورغم ذلك، فإن التوافق السياسي يجعل هذه العقدة الأسهل للحل.
لماذا تقع كل هذه الصراعات في قوى الأمن الداخلي، دون باقي الأجهزة الأمنية؟ يرى بعض الضباط أن هذا الصراع مردّه إلى «الديمقراطية المفروضة» على قوى الأمن. فالسلطة الممنوحة للمدير العام مقيّدة بالتصويت في مجلس القيادة، بينما صلاحيات باقي قادة الأجهزة الأمنية مطلقة. ففي الأمن العام يقرر المدير العام وحده، جراء التفويض الممنوح من وزير الداخلية. وفي أمن الدولة، يتوافق المدير العام ونائبه. أما في الجيش، فهناك مجلس عسكري مؤلف من ستة ضباط (بينهم قائد الجيش) يقترعون بالأكثرية، ويُرجِّح الكفة عند التعادل صوت القائد. والجدير ذكره أن الرئيس الراحل رفيق الحريري، اقترح أن يقتصر مجلس قيادة قوى الأمن الداخلي على المدير العام وقادة المناطق الخمس، فيكون على هيئة المجلس العسكري في الجيش. غير أن الاقتراح لم يبصر النور.
بعد 15 يوماً، (11/11/2017)، سيجتمع مجلس القيادة ليبحث أمر التشكيلات. فإما أن يُنتج التوافق السياسي قراراً بهذا الشأن، وإما أن يبقى فرمان رستم عزالة هو الحاكم.