مزعجة ومرعبة ومقلقة هي التعابير التي سمعناها خلال الايام الاخيرة بعد صدور الحكم على الأمين حبيب الشرتوني، والمقلق فيها ليس حكم اعدام حبيب الشرتوني بحد ذاته، فالشرتوني حين قرر المضي في هذا العمل، كان يعرف ان حياته على المحك وحياة عائلته كلها على المحك. وهو ارتضى ذلك .
ولكن ما يقلق هو ظهور ما يختلج في النفوس حقيقة، وما كانت اخفته الديبلوماسية السياسية، وضرورة الوفاق السياسي والتعايش والاستمرار بالحد الادنى بشبه وطن.
حرك حكم الشرتوني هذا المستنقع وما يخبىء تحته من مشاعر دفينة لم تلتئم جراحها بعد، من اتهامات بالعمالة، والدم والجرائم والمجازر المتبادلة، الى استعادة خطابات مرحلة كنا نعتقد انها طويت ولكنها لم تطو من النفوس كما هو واضح .
عدنا نسمع ان الشيخ بشير هو قديس "غصب عن الله تبع الله " وأن من قتل بشير هم دواعش لبنان، والرأي الآخر يقول أن هذا الفريق هو المسؤول عن السبت الأسود، مجزرة عينطورة، مجزرة المخيمات وعدد لابأس به من الاغتيالات السياسية، والفريقين يتبادلان الاتهامات بعد اكثر من 35 سنة. كما عدنا نشهد المسيحي المؤمن والذي يعتبر القداسة غصباً عن الله مضطر ان يجيب صديق من نفس المدرسة الفكرية بعنف لان العين بالعين والسن بالسن .
استعادة هذه الخطابات هو من الخطورة بحيث يعيد احياء شياطين الحروب، ومسببات النزاع، لدرجة ان شباب اليوم والذين لم يعايشوا تلك المراحل يتبنون هذه الخطابات بحذافيرها من دون تحليل او تفكير، ليتعاظم الخوف من الآخر ولتزيد الانقسامات، هذه الانقسامات نفسها التي تمنع عن لبنان اي فرصة لقيام الدولة. اذا لم نصل الى مصالحة وطنية من خلال الحقائق ومن خلال قناعة عند كل الافرقاء بأن هذه الحقبة كلها أخطاء لن نتمكن من اعادة بناء مجتمع موّحد في وطن الرسالة .
ان الاستشراس للدفاع عن مسببات واسباب تلك المرحلة السوداء من تاريخ لبنان، لدى الشباب هو اقوى واعنف من المحاربة والمطالبة بالحقوق الاقتصادية وفرص الانتاج (العمل) ورفض الفساد والسرقة والهدر.
لم نتخط بالفعل عقلية النزاع والقتال، ننساق في كل لحظة وكل مسبب الى الرجوع الى متاريسنا يقال ان السبب يعود الى طوي صفحة الحرب اللعينة من دون اجراء محاسبة شاملة ودقيقة لكل من ارتكب، وقتل ودمر، الى كل من أخطأ وساهم وتعامل، وتوسع الجرح لانه تم تجاهل حق ومصير كل شهيد ومفقود، كل من تم تعذيبه بوحشية ومن شاهد عائلته تقتل امام عينيه، لم يحصل على العدالة كل من فقد ابنائه واغتصبت بناته، وتم اذلاله على المعابر، كل من رمي به في البحر، او اوقف على حائط ينتظر لحظته الاخيرة .
لا لم نحاسب، ولكن هل فتح هذه الاوراق هو من الحكمة بحيث يعيد الوئام والوفاق الى افرقاء هذا الوطن المتشرذم، هل اعادة ايقاظ هذه الذكريات ستؤسس لمستقبل افضل لابناؤنا ولانتمائهم لوطن واحد، ام هو موسمي انتخابي؟ ولا بد هنا من تذكير كل الافرقاء بان غير الحزبيين عددهم اكثر من الحزبيين.
علينا ان نمتلك الشجاعة اليوم للغفران والبدء من جديد، كما فعل نيلسون مانديلا في جنوب افريقيا الذي تعالى عن حقه الشخصي في سبيل التأسيس لوطن مستقر وفاعل. لقد اوصد الباب وراءه ومضى... فمتى سنقوم بالمثل رحمة باجيالنا القادمة؟.
ان تحقيق العدالة للشهداء "لكل الشهداء" هو ان نثبت لهم ان دمائهم التي سالت على تراب الوطن وسقت ارضه لن تكون عبثية او "ساعة تخلٍّ"، بل ستكون الحافز للاصرار على الوصول الى دولة قوية مستقرة تؤمن لابنائها ليس العيش الكريم فقط بل حياة مشتركة والكرامة الانسانية والاقتصادية .
ان العبارات التي تم تداولها مؤخرا بين ليس فقط الناشطين على وسائل التواصل الاجتماعي بل مسؤولين وقياديين في الاحزاب، تنبئنا بوجود مشكلة اساسية في عملية التثقيف السياسي داخل الاحزاب، وفي التوعية السياسية والحزبية، وحث الاحزاب على التعرف على الآخر وفهم عقائده وتاريخه وظروفه . يقع على عاتق الاحزاب اللبنانية اليوم أخذ الحوار السياسي الى نطاق آخر، الى نطاق يكون فيه المعيار الاساسي عدم الحقد والتجني والنميمة المتوارثة. الى عصر جديد من النقاش العلمي الذي يعتمد على الحلول لا الاتهامات، الوقائع لا الكليشهات المتوارثة والتركيز على القواسم الاساسية والتي تعني قيام بلد قوي، سيد نفسه اقتصاديا وتنمويا وامنياً.
اما ما ازعجني شخصيا خلال الايام الماضية هو مقدار عدم اطلاع الاحزاب المسيحية على فكر سعادة وبعده الانساني المشرقي الآرامي الكنعاني، هذا الفكر العظيم الذي يتم اختزاله فقط بعقول البعض، الى التبعية للنظام السوري، والى تقويض الكيان اللبناني لصالح النظام السوري. فكر سعادة أكبر من ذلك واوسع، هو دعوة لاستعمال العقل والمنطق والابتعاد عن الغريزة الاساسية، للنهوض والقوة وعدم الخنوع، السعي نحو الحياة لا نحو العيش الضيق، تغيير وجه التاريخ لا الانسياق وراء مخططات رسمت، بأمة عظيمة المواهب جديرة بالخلود والمجد. ولا بد من الاشارة الى ان سعادة حذر من الداعشية الاسلامية المتطرفة منذ أكثر من 80 سنة .
كم نحتاج اليوم الى اعادة النقاش بالافكار والعقائد، وان نعيد الاعتبار للعقل وليس للانتقام والاحقاد والتشفي . ونضع ارضية موحدة ننطلق منها لبناء وطن، فكما قال انطون سعادة: "إن القوة النظامية مهما كانت صغيرة، أفعل بكثير من الجماهير التي لا تجمعها إرادة واحدة في الحياة، ونفسية واحدة، وبناء مناقبي واحد". قيل لي ان المواقف المتشجنة الغرائزية هي التي تعطي اصواتا في الانتخابات في لبنان وقلت لهم ان فريقا لابأس به من اللبنانيين اصبحوا خارج غرائزية البعض، بل تعبوا من خطابات كبدتهم الكثير.