بعد عام مضى على ولاية الرئيس ميشال عون، قد تستهوي الأقلام رغبةُ التصدّي للجردة الحسابية، فيما «قطْع الحساب» الرئاسي هو الأجدى إفادةً والأعمق تأثيراً فنذكِّر بأنَّ: «رئيس الجمهورية هو رئيس الدولة ورمز وحدة الوطن...» هكذا يقول الدستور.
وأنَّ: «وجود المدينة مرهون بوجود الرئيس، وصلاح الرئيس يؤدي الى صلاح المدينة، وفساده يؤدي الى هلاكها...» هكذا يقول الفارابي الفيلسوف.
ومن مآثر الرؤساء في لبنان، ما يُروى عن الرئيس أيوب تابت الذي كانت الحرب العالمية الثانية مُحتَدِمة في عهده... وحين فرضت السلطات الفرنسية نظام الإعاشة والتقنين، أمَرَ مدير الإعاشة آنذاك نصري لحود بأن يُرسل فرن الحايك إستثنائياً الخبز الأبيض الى بيت الرئيس، فيما كان الشعب يأكل الخبز الأسود.
ولما عرف الرئيس أيوب تابت بذلك إستدعى نصري لحود وقال له: «أَعِدْ الخبز الأبيض الى الفرن، واعلم أنه من الخير للحاكم العادل أن يأكل مع شعبه الخبز الأسود ويحافظ على وجهه الأبيض، من أن يأكل وحده الخبز الأبيض ويُطِلّ على شعبه بوجهٍ أسود».
وكما أن الرئيس أيوب تابت قد بلَغَ عنده التقشّف حدّ الذهاب الى مركز عمله في السرايا مشياً على الأقدام، هكذا ألمَّت الفاقة بالرئيس الفرد نقاش وهو إبن الثمانين، ولو لم تخصص له الدولة ألف ليرة شهرياً بمبادرة من الرئيس فؤاد شهاب لكان مات من الجوع.
وبعد عهد أيوب تابت وألفرد نقاش تعدَّدت أنظمة الإعاشة ولاسيما في لبنان المستقل، وكانت كثيرةً الأيام التي كان فيها الشعب يأكل الخبز الأسود، وصولاً الى هذه الأيام السود التي نعيشها اليوم، والتي يصح فيها ما أوردته إحدى الصحف خلال الثورة الفرنسية وحكم روبسبيار فكتبت تقول: «كان الدم يسيل ولم نفتقد الخبز، واليوم لا يسيل الدم والخبز مفقود، أيجب أن يسيل الدم لنحصل على الخبز...؟»
ثمة عهود بعد الإستقلال كان الحكام فيها يأكلون خبز الشعب الأبيض، وثمة عهود كانت قبائل السياسة فيها تأكل خبز الشعب وخبز العهد، هكذا وصف الشاعر نزار قباني الرئيس الياس سركيس بقوله: «إنَّ وضعه مع قبائل السياسة في لبنان شبيهٌ بوضع المبشرين مع أكَلَة لحوم البشر في إفريقيا..»
ومما يُذكر أنّ رئيساً عربياً أهدى الى الرئيس سركيس مليون دولار فوهَبها للخزينة على اعتبار أنه تلقى هذه الهدية بوصفه رئيساً للجمهورية، فهي إذاً من حق الجمهورية وليست من حق الرئيس.
والرئيس فؤاد شهاب الذي أرسى قواعد الدولة ومؤسساتها على أسس تنظيمية متطورة، بالرغم مما شاب عهده من ممارسات للمكتب الثاني، إلا أن وجهه الشخصي لم يتلطّخ بالسواد، وأن زوجته من بعده كانت تعيش من قلّة الموت.
هذه نماذج عابرة نذكرها عن بعض الرؤساء لا تنديداً بالآخرين أو إغفالاً لما كان عندهم من مآثر، بل نوردها لنؤكد لمستقبل العهود الآتية أن ما تمحوه ذاكرة الأحكام تحفظه ذاكرة التاريخ.
الرئيس ميشال عون من الوجوه التي لا تحتمل إثارة الشكوك، إلا إذا انزلقت الحاشية الى تشكيل ما يعرف بالمكتب الثاني المدني الذي يسوّد الوجوه، فلنعقد الأمل على هذا العهد لنأكل الخبز الأبيض، أما إذا أكَلَ هو معنا الخبز الأسود فعلى قلوبنا مثل العسل.