إنصرفتُ مساء الإثنين الماضي إلى متابعة الوليمة السياسية التي أقامها فخامة الرئيس، حيث اجتمع حول مائدة القصر رؤساء تحرير المحطات التلفزيونية بمناسبة مرور سنة على تولّيه. وكانت لكلٍّ ملاحظاته وتعليقاته، أما أنا، فقد أخذني الشكل الى ذاكرتي الشعرية وإلى أبي نواس حين يقول في وصف الخمر:
عِنَبيَّةٌ، ذَهَبِيَّةُ، صَاغَتْ لَها
ذَهَبَ الكلامِ.. صَاغةُ الشَّعَراءِ
صَعُبَتْ.. وَرَاضَ المَزْجُ حِدَّة طَبْعِها
فَتَعَلَّمَتْ.. من حُسْن طَبْع الماءِ
ربما كان مردُّ هذا إلى الانطباع الذي تركه في نفسي فخامته حين ترأس المائدة من غير أن تكون في يده مطرقة يزجر بها هذا أو يُسكت ذاك، بل تسلّح بابتسامة لم تفارقه حتى عندما كانت أجوبته على قدر من الصرامة...
ورغم هذا، فقد تكوَّن لديّ أنّ الجلسة كانت منظّمة سلفاً فيما كان الاستاذ رفيق شلالا ضابطَ إيقاعها بتدخّلاته التي تأتي في الوقت المناسب، أي عندما كانت تهدّد بعض الاسئلة المستفزّة بالذهاب إلى شفير الغضب.
خلاصة ما أقوله، إنّ خطاب الجنرال عون الماضي، القوي النبرة، العنيف المضمون، الذي كان يُلقيه أثناء تولّيه لرئاسة «التيار الوطني الحر»، قد استبدله وذهب إلى هدوءٍ ملحوظ ربما يعود إلى ذلك المزج الذي تحدّث عنه ابو نواس، لأنّ الخروج من الانحياز الى التحيّز في سُدَّة الرئاسة، وتبادل الآراء مع مختلفين، يخفّف حدة الطبع، ويُغلِّبُ طبع الماء الزلال؛ ولقد لفتتني جداً إشارتان من الرئيس، يندّد في أولاهما بالعنصرية، ويؤكّد علماً نيّته في الثانية، فتمنيتُ لو أنه جمع بين رئاسة الجمهورية ورئاسته للتيار، تجنّباً لأيّ نوع من أنواع الخطابات العنصرية والطائفية.
هذا عن الشكل، أما عن الأكل (كما يقول أبو الفتح الاسكندري في المقامة المضيرية لبديع الزمان)، فقد اتّسم بين الحين والحين، بقدر زائد من الملوحة، أو كمية لاذعة من الفلفل الحار تقتضي الإشارة إلى بعضها:
1- لو لم ينعقد المجلس النيابي الممَدَّد له، بالنصاب المطلوب لما تمكّن فخامة الرئيس من الوصول إلى قصر بعبدا حتى لو كان الشعب كله معه، لأنّ المجلس هو المعبر الإلزامي للمرور.
2- يستطيع الشعب اللبناني وأهل الرأي والحكام الحديث إلى الأبد عن الفساد كحالة هيولية، غير قابلة للمَسّ أو المحاسبة، طالما أنّ فخامة الرئيس يشكو من «فقدان الدليل».
3- إنّ الوصول إلى الرئاسة كان نتيجة تسوية أملتها مخاطر الظروف الداخلية والإقليمية والدولية، وعليه، فإنّ الحفاظ على تلك التسوية لا يتمّ باستعادة إنتاج خطاب الخصومة والإبراء المستحيل، والاقتصاد الريعي، ما إلى ذلك من أدبيات مرحلة ما قبل التسوية، وإلّا فإنّ الأطراف الأخرى ستستخرج أدبيّاتِها، ليمتلئَ هواءُ البث بالكلام المسموم.
4- لم يكن فخامة الرئيس مضطراً، سواءٌ من الناحية السياسية أو الدستورية للرد على السؤال المحرِج حول موقف دول الخليج العربي من «حزب الله»، إذ قال إنّ خروج تلك الدول عن ميثاق الجامعة لا يلزمه بشيء، بل كان يستطيع بكل سلاسة أن يحيل سؤال السيدة مريم البسام إلى مجلس الوزراء، صاحب الصلاحية في رسم سياسة الدولة وعلاقتها بالدول الأخرى.
5- إنّ الشعب اللبناني، لا يسعى وراء انتقال فخامة الرئيس من حلف إلى حلف، ولكنه ينتظر منه أن يشرح له رؤيته لمعالجة معضلة السلاح، وفائض قوة «حزب الله»، من خارج شعارات ضعف الدولة، وعجز الجيش، لأنّ ما لم يُتح للرئيس ميشال سليمان تنفيذه في بيان بعبدا، قد يستطيع أن يتعاطى معه بإيجابية أكثر الرئيس عون لما له الآن من ثقة تليدة وثقة عتيدة لدى طرفَي الخلاف.
خاتمة القول هو التمني على فخامته أن يدعو إلى مائدته هذه، بصورة متكرّرة، أصحابَ الرأي والاختصاص في تشاور علني، تُطرح فيها القضايا والمعضلات للخروج من قاعة الانتظار إلى هيكل الدولة.