قَدْ أرادوا لبنانَ سَفْحَاً ذليلاً وأردناهُ شامخاً مرموقا. قد يُقالُ، ماذا قدَّمَ العلويون لِلبنانَ؟ الجواب بديهيٌّ جدّاً، وماذا قدَّمَ لبنان للعلويين سوى التمييز العنصري والاستعداء الطائفي واعتبارهم مواطنين من الدرجة الثامنة عشر؟.
ولكن مع كل هذا الإجحاف والتنكر لحقوقنا، سنعيد تذكير من نسيَ بهذا التراث الأدبي الرائع الكبير الذي ورَّثنا إياه شاعرنا العبقري، بدوي الجبل (محمد سليمان الأحمد 1903-1981).
هذا التراث الجميل الذي سنختصر منه موضع الحاجة هنا لأصدق دليلٍ عن عشقنا للبنان ولاءً وانتماءً، وهو أكبر تضحيةٍ يقدمها مواطنٌ شبهُ مُعْدَمٍ في وطنه، بعدما أرخص دماءه في سبيله.
وإذا كان لكل قبيلةٍ شاعرها، ولكل طائفةٍ إعلامييها، فبدوي الجبل كان وما زالَ شاعرنا الأول المعبر عن عشقنا لهذا الوطن الجميل الذي حرمنا من كل سلامٍ فيهِ، وتنعمٍ بمغانيه (طبعاً في هذه الجزئية التي لا يخالفني فيها علويٌّ قطُّ).
بدوي الجبل الذي عشق لبنان وأغرانا بعشقه، فكتب له وتغنى فيه، وأنشد بأهله، ورثى رجالَهُ.
ولمن لا يعرف شاعرنا الكبير أو يتجاهل علينا نقول: بدوي الجبل الذي مدحه شعراء كبارٌ وكبارٌ، فوصفه نزار قباني: "بدوي الجبل السيف اليماني الوحيد المعلق على جدار الشعر العربي، في حنجرته ألف لبيد وألف شريف رضي وألف أبي تمام". أما عباس محمود العقاد فقال: "إن شعر البدوي يطلع من أعماق نفس القائل ليرتد إلى أعماق نفس السامع لا ليروي طريفاً أو يثير انفعالاً بل ليستقر ويُحفظ بعد الإلقاءة الأولى كل هذا في أناقة مترفة". بينما قال العلاّمة محمد كرد علي، مؤسس المجمع العلمي العربي بدمشق: "إن بدوي الجبل هو في مقدمة شعراء العرب، الذين يحملون لواء وحدتها ويقودونها إلى سبيل سلامتها وعظمتها"(1).
بدوي الجبل أحد كبار الشعراء العرب في العصر الحديث. هو أحد الثلاثة الذين عُرفوا بالمثلث الشعري الكبير: بدوي الجبل، والجواهري، وعمر أبو ريشة. قامات شعرية كبيرة، وفرسان ثلاثة، لا يُدرى أيّهم أسبق. فإذا ضمهم مهرجان شعري؛ تألق الشعر العربي الأصيل بكل شموخه وفتونه، مستوعباً كل ذلك التراث الفخم المنحدر من عصره الذهبي، عصر بني العباس. يتنازع هؤلاء الثلاثة على لقب "شاعر العربية"، أو "شاعر العرب الكبير"، أو "أمير الشعر العربي"، ولكل منهم عشاق ومريدون، ومصفِّقون ومعجبون. فإذا قرأت لأحدهم قلت: هذا أشعر من ذينك الشاعرين.
ولكن ما هو رأي ذينك الشاعرين في ثالثهم بدوي الجبل؟ فهذا أبو ريشة يقول عن شعر البدوي: "ديباجة مشرقة، وأسلوب متين، وإحساس مرهف يقف في الصف الأول من شعراء العالم العربي". ويقول الجواهري، "أكبر شاعر في هذا العصر بدوي الجبل، وشاعر آخر". والشاعر الآخر –هنا– هو الجواهري نفسه(2).
بدوي الجبل المُغنى بصوت الكبار: كـفيروز "خالقة" وناظم الغزالي "يا وحشة الثأر" وسعاد محمد "جلونا الفاتحين" وسيد مكاوي الذي تناوب مع مها الجابري على غناء "سقى الله عند اللاذقية شاطئاً" فاتن الحناوي "سمراء" وجورج وسوف "أتسألين عن الخمسين"؟ (اكتشفتها من خلال بحثي على الغوغل صدفةً).
وكان الشاعر الوحيد الذي رفض رغبة أم كلثوم في تغيير عنوان قصيدة له، ارادت أن تغنيها بشرط أن يغير عنوانها من «شقراء» إلى «سمراء»، فسائر الشعراء كانوا يغيّرون في قصائدهم، وفقا لطلب أم كلثوم، ارضاءً لها، اما بدوي الجبل فرفض، مضحياً بذلك الخلود الذي كان سيكسبه إياه غناء أم كلثوم لقصيدته(3).
كل هذه السيرة الكبيرة لبدوي الجبل قد يصادفني دكتور لبناني مثقف من الطراز الأول، ولكن لا يعرفه. فتصوروا يرعاكم الله.
ولنأتِ على كلام الأدباء اللبنانيين فيه: فهذا هو سعيد عقل يقول، "بدوي الجبل أحد قلائد الشعر في الدنيا". والأخطل الصغير (بشارة عبد الله الخوري) قرَّظه بقوله، "علم الشعر العربي في هذا العصر".
أما الشاعر الكبير أمين نخلة فقال، "بدوي الجبل أمير الشعراء، وأوفى الأوفياء"، وهناك قصة تُروى عن لِسان البدوي، "إنه سُجن في لبنان في شبابه حوالي السنة، وأنه أقام فيه مرة خمس سنوات متواصلة، وأنه تردد عليه كثيراً خلال حياته". ومن طريف ما ذكره لنا أنه زار يوماً في بيروت، وبصحبة سياسي سوري قديم شهد العهد العثماني، صديقه الشاعر اللبناني أمين نخلة. فلفت نظر هذا السياسي السوري صورة فوتوغرافية كبيرة معلّقة على حائط صالون أمين نخلة، فسأل عن صاحبها، فقال له نخلة: إنها صورة والدي رشيد نخلة، فعاد الرجل يسأل، وهل كان والدكم «صدراً أعظم» في الدولة العثمانية؟ فرد أمين نخلة نافياً ومرتبكاً في الوقت نفسه. وهنا توقف السياسي السوري (وقد نسيتُ الآن اسمه) عن طرح الأسئلة ليقول لبدوي الجبل بعد أن خرجا: "إن صاحبك أمين نخلة نصّاب. ذلك أن من بين الأوسمة المعلقة على صدر والده وساماً لم يكن يُعطى في الدولة العثمانية إلا لمن تبوأ منصب "الصدر الأعظم"، أي رئاسة الوزارة بلغة اليوم، فكيف وصل هذا الوسام إلى صدر رشيد نخلة وهو لم يكن صدراً أعظم؟ وقد استنتج الرجلان، وبما لا يقبل الجدل، أن أمين نخلة، الذي كان مشهوراً بولعه بمظاهر العظمة والابّهة، أخذ صورة أحد الذين تبوأوا منصب "صدر أعظم" إلى أحد الرسامين أو "الصنايعيّة" في بيروت ومعها صورة والده رشيد نخلة الذي كان بدوره سياسياً لبنانياً (ولكن محدود الدور السياسي)، وجعل هذا الرسام أو الصانع يفصل الصورتين ليركب صورة جديدة ولكن مزوّرة، نصفها الأعلى، أي الوجه، لرشيد نخلة، ونصفها الآخر لصدر أعظم، تركي على الأرجح! وما ذاك إلا لولعه بالعظمة والوجاهة!(4).
شعره في لبنان
عندما قال أحمد شوقي رائعته في لبنان: لبنانُ، مجدكَ في المشارق أوَّلُ والأَرضُ رابية وأَنتَ سَنامُ، أهداه شاعرنا العبقري بدوي الجبل هذه القصيدة الخالدة في لبنان، الحسن فيك وهذه آياته بجمال ربك أشرقت مرآته.
ولا يكتفي بَدَوِيْنَا العبقري بذلك، بَلْ له قصيدتين كاملتين في لبنان، وأغنية للبردوني، وتحية للشباب.
ففي تحيته للشباب العربي التي ألقاها في مدرسة "اللاييك" في بيروت عام (1924) يبكي شاعرنا على لبنان بكل ألم: واضيعة الوطن الصغير.. تعدّدتْ أديانه وعروشه ولغاتُهُ هذا أسيرك يا مذاهب مَلَّهُ عَضُّ القيودِ، ألَمْ يَئِنْ إفلاتُهُ؟ ألا يُحاكي وجعه هناك، وجعنا الآن؟..
وأما قصيدتاه في لبنان، فالأولى أُلقيت في جونية بمناسبة تكريم شاعر القطرين خليل مطران عام (1922) بعنوان (لبنان والغوطتان):
لِيْ موطنٌ في رُبى لبنانَ ممتنعٌ وَلي بنو العمّ من أبنائه النُّجبِ
لبنان والغوطة الخضراء ضمّهما ما شئت من أدبٍ عال ومن نسب
ما في اتّحادهما تالله من عجب هذا الفراق لعمري منتهى العجب
للخلف في الناس أنواع و أغربها خلف الشقيقين من قومي بلا سبب
ألا تصور هذه الأبيات القليلة بكل صدقٍ واقع خلافنا الداخلي مع سوريا بمعزل عن كل سياسةٍ؟.
والثانية، بعنوان "أطَلَّ مِنْ حَرمِ الرُّؤْيا فَعَزَّاني"
منازل الخلد لا أرباع لبنان وفتنة السحر لا آيات فنّان
جنان لبنان حسبي منك وارفة فيها النديّان من روح وريحان
وأول ما يُطالعنا به الشاعر في هذه القصيدة عنوانها "أطَلَّ مِنْ حَرمِ الرُّؤْيا فَعَزَّاني". فكلمة أطل تعكس تطلع الشاعر صوب بشارةٍ ما، أو هدفٍ مُعيَّنٍ، قد تحقق أو يحلم الشاعر بتحقيقه...وبالنظر إلى بنية النص الباطنية نجد أن البدوي يجعل من لبنان رمزاً مكانياً تراثياً تارَّةً، ورمزاً حضارياً لمدينة كونية تارة أخرى، بمعنى أنَّ لبنان هو البديل الرمزي للمدينة العربية وللحضارة العربية، لأنَّهُ يُشكلُ بل يُنتجُ حضارة تنطلق من ثقافتها، وجوهر تراثها، بمعنى آخر، يمثل ديمومة التراث والوجود من جهة، وديمومة الابداع والتطور والاختراع من جهةٍ أخرى(5).
وأما أغنيته للبردوني، فقد ارتجلها في جلسةِ طربٍ على ضفافِهِ سنة 1923 كان عمره 20 سنة؛ وفيها يدل على عظيم حبه، وكبير صدقه في محبته لهذا الوطن الجميل الذي نعشقه فيظلمنا، ونفديه بدمائنا فيطردنا.
رثاؤه لرجالات لبنان
كانت تجمعه علاقة طيبةٌ جداً مع سياسي لبنان وإعلامييه ناهيك عن أدبائه، فرثى الزعيم رياض الصلح (20/5/1950) بمطوّلة لاميَّة عنوانها: أين أين الرعيل من أهلِ بدر؟.
بعد أن كان قد ذكره في حفلة ذكرى هنانو (1945)
وأنَّ رياضاً هَزَّ لبنانَ فانْتَخَتْ شمائِلُ لبنانَ ميمونةٌ غُرُّ
رَمى كلَّ بُرْدٍ أجنبيٍّ مُزوَّرٍ وعادتْ لقحطانَ المَنَاسِبُ وَالنَّجْرُ (أي الحسبُ).
وفي رثاء الشاعر شبلي الملاط (ت 1961) بقصيدته (خمرة الأحزان) قال،
لبنانُ، يا حُلمَ الفِردوسِ أبدعهُ على غِرارِ ذُراكَ الواحِدُ الصَّمَدُ
وأهدى قصيدته (ثُكْل الأمومةِ) إلى روحِ أخيه الكاتب والباحث الإعلامي كامل جميل مروة مؤسس صحيفة "الحياة" و"ذا ديلي ستار" و"بيروت ماتان"، الذي، أغتيل يوم الاثنين 16 أيار سنة 1966، في مكتبه في دار الحياة في بيروت برصاصتين أطلقتا من مسدس كاتم للصوت فأصابتاه في القلب وكان عمره 51 عاماً، قال فيها:
لبنانُ أين ربيعٌ كُنتَ أيْكَتَهُ؟ يبكي الرّبيع إذا جافى و يفتقدُ
وقال في أُستاذه الشيخ مصطفى الغلاييني (ت 1944) رئيس المجلس الإسلامي في بيروت مُتجاوزاً كُلَّ اِنتماءٍ طائِفيٍّ:
وغسّان العلى قومي ولكن إلى أدابك الغرّ انتسابي
وذرفتْ عيناهُ حُزناً على الشاعر الشيخ الطرابلسي عبدالحميد بن عبدالغني الرافعي (ت 1932):
رُزِئَ الشِّعرُ فيك عبدَ الحميدِ عبقريَّ القديمِ عذبَ الجديدِ
لا تغرّنكَ ضحكةٌ من حزينٍ ضحكاتُ البروقِ سرُّ الرّعودِ
وفي النهاية، بعد كلِّ هذا الحب والتغزل والوفاء من شاعرنا الكبير بدوي الجبل، نراه في النهاية ينصدمُ من لُبنان، فيعاتبه قائلاً:
ضَاقَ لبنانُ بي وَكانَ رحيباً وتَنَزّى حقداً وَكان رفيقا
ما للبنان رحت أسقيه حبّي وسقاني مرارةً وعقوقا
هذه هي بالضبط حالنا بكل دقة في لبنان نحن العلويون قد قالها بكل وجعٍ بلساننا جميعاً شاعرنا الكبير بدوي الجبل... وَسَلامٌ على طِيْبِ الكلامِ.
(1)بدوي الجبل عملاق الكلاسيكية المعاصرة، موسوعة أعلام الشعر العربي الحديث، إعداد هاني الخيّر، مؤسسة علاء الدين للطباعة والتوزيع، دمشق، سوريا، الطبعة الأولى، 2005، ص: 8.
(2)محمد رضي الشماسي: بدوي الجبل شاعر الكلاسيكية الحديثة، مجلة الواحة، 24 / 3 / 2011م - 7:08 م-العدد (60).
(3)جهاد فاضل: «كوكب الشرق» أحيطت بحـصانة وعوملت كأنها «امرأة قيصر»: موقع الإمارات اليوم.
(4)جهاد فاضل: في بيت بدوي الجبل، جريدة الرياض، الخميس 24 المحرم 1427هـ - 23 شباط 2006م -العدد 13758.
(5)الدكتور عصام عبد السلام شرتح: جمالية الخطاب الشعري عند بدوي الجبل، دار الخليج ، 252.ضل