أن ينامَ لبنانيٌّ “منذ أكثر من عشر سنوات” مواطنًا عاديًا ويستفيقَ وزيرًا “قسرًا” أمرٌ بديهيٌّ وDéjà vu، لكن أن ينامَ رئيس حكومة رئيسًا في بلاده ويستفيق رئيسًا مستقيلًا أو مُقالًا في غير بلاده، حقيقة تضرب الدستور والأعراض والعقول والهوية.
لا يعشق رئيس الحكومة الحالي سعد الحريري (مع التشديد على عبارة رئيس الحكومة الحالي طالما أن رئيس الجمهورية لم يقبل استقالته بعد) جلاديه، ولا هو على درجةٍ من الفُصام ليعانق مستشارًا إيرانيًا قبل ليلةٍ قبل أن يعود بعد ساعاتٍ ليهاجم بلاده ويصفها بأشنع النعوت. ليس الرئيس سعد الحريري على قدرٍ من “الصبينة والولدنة” ليقرّر بين ليلةٍ وضحاها رميَ البلاد في مجهول لم يعرف به حتى أقرب مقرّبيه من أبناء حلقته الضيّقة. كيف يعرفون وهو الذي كان يجهل ما ينتظره في دارته الثانية التي يحمل جنسيّتها؟
لا يعاني الرئيس الحريري من أي مرضٍ عقليٍّ ليترك كلّ ما بلغه في لبنان بعد طول غيابٍ عن قاعدته وبلده والرئاسة الثالثة ليطفحَ به الكيلُ من “أداء إيران” كما حلا لكاتب نصّه أن يخطّ حروفًا وُضِعت بين يديه وبات واضحًا أنه لم يكن يفهم ما يقرأ، لا بل يراهن كثيرون على أنه لم يطّلع على مضمون البيان قبيل جلوسه أمام الكاميرا ليقول ما قاله.
أمهلت السعودية التي تعيش فترة “جنون داخلي” الرئيس العماد ميشال عون أيامًا أربعة للانتشاء بسنويّته الأولى والاحتفال بما حققه من إنجازات. مضت “فترة السماح” فتوجّه الحريري الى “مملكته” ليجد واقعًا آخر ما كان ليُفرَض عليه من دون تجريده من صفته الرسمية في بلاده الأمّ.
أيًا يكن، ترك الحريري جرحًا في الجسد اللبناني برمّته وليس فقط في الشارع السنّي الذي ينبت منه “لهّاثون” كثيرون الى ملء شغور كرسيّه. هي الصدمة في ذاتها. كيف يجرؤ ألا يكون رجل دولة في هذه الظروف بالذات؟ عارفو الشيخ سعد يمتلكون الإجابة الصريحة الراكنة الى ملامح وجهه، الى طريقة قراءته، الى مفرداتٍ لا تمتّ الى يومياته بصلة، الى تشكيل أحرفٍ متعثّر بعدما واظب في الآونة الأخيرة على حسنِ تحريك نصّه، الى بيان “استغاثة” أطلقه بطريقة غير مباشرة عندما أعلن أنه في صحّة جيدة. عارفو الشيخ سعد وحدهم يمتلكون تأكيدًا بأن الرجل لا يعاني من “سكيزوفرينيا” تدفعه الى تبديل قرارٍ بحجم وطنٍ في غضون ساعاتٍ
هو الذي كان يحارب من أجل بقاء حكومته ويهاتف سمير جعجع عاتبًا لائمًا ممتعضًا من التلويح باستقالة وزرائه. عارفو الشيخ سعد وحدهم يدركون أن إطلالةً مع سفير المملكة الجديد لدى لبنان غير كفيلة بإثلاج القلوب، ولا كلامًا على عودته في غضون ثمانٍ وأربعين ساعةً يمحو آثار ملامح وجهه الباهتة العليلة.
في الأمس لم يكن سعد الحريري من استقال ولو أن “جماعته” في لبنان يتمسّكون بالنغمة الإيرانية التافهة. في الأمس، لم يكن سعد الحريري، العارف في الأصول، هو من استقال في أرضٍ غير أرضه وعلى شاشةٍ غير شاشته. في الأمس كان سعدٌ آخر، سعد المخنوق برعايةٍ “أبويّة” سعودية لا “مَونة”؛ سعد المخنوق بسلطةٍ ماديّة تمتلك العائلة الحاكمة أدواتها.
اليوم لا بل من باب الشفقة على رجلٍ أحبّه اللبنانيون أكثر في عودته الثانية، ولا من باب المزايدة على شابٍ لبنانيٍّ أنجز وحكومته رغم إصرار كثيرين على “تقزيم” إنجازاته، ولا من باب مهاجمة المملكة أو التشفّي بدورها “غير النائي” في لبنان، القلبُ على سعد. قلوب جميع اللبنانيين (من محبيه وغير محبيه) على سعد. هو مزيجٌ من الخذلان والتعاطف إزاء ذلٍّ ذاقه رئيس الحكومة قبل الشعب بثوانٍ في سابقةٍ تدفع باللبنانيين الى المطالبة بعودة رئيس حكومتهم لعدم انطلاء حكاية “محاولة اغتياله” عليهم.
قد ينتظر رئيس الجمهورية طويلًا عودة رجل العهد الثاني. قد ينتظر بلا جدوى وسط وابل من الضغوط ومحاولة التوسّط لدى “الخيّرين” وما أندرهم. قد يدفعه ملل الانتظار الى خياراتٍ دستوريّة جمّة توضَع أمامه على الطاولة، ولكن ليس قبل فهم ماهيات المفاجأة إذا كان صاحبُ المفاجأة فهمها أصلًا... لكلّ ذاك التعاطف الصادق، لكلّ ذاك الإحباط العام الذي تسلّل الى النفوس. لكل الذكريات الجميلة و”السيلفيات” العفوية التي ذيّلها الشيخ سعد ببسمته، للإيمان بأن ميشال عون لن يترك الساحة سائبة في سنوية عهده الأولى، للقناعة بأن إسرائيل أكثر جبنًا من أن تغرق في وحول حربٍ جديدة في لبنان، للتقدير بأن أيّ تسيّب عسكري على شاكلة الحرب اليمنية لن ينطلي على لبنان، للثقة بأن العملة الوطنية صامدة صمود شعبها حتى في ظروفٍ أكثر حلاكةً... لكلّ تلك الأسباب لا خوف على العهد... الخوف على سعد! لا بل القلبُ على سعد ومعه!