استقالة رئيس الحكومة اللبنانية سعد الحريري لم تكن مفاجِئة سوى لفريق خصمه السياسي.
الأسباب عدّة :
أوّلاً: نظامُ المملكة العربية السعودية لم يُسَمِّ ولم يُهلّل أصلاً لتعيين سعد الحريري رئيساً للحكومة. لم يُرسَم له في سياسة العاهل السعودي الملك سلمان، الإستمرار على رأس الحكومة اللبنانية . بسبب انعدام الثقة.
مَن تجرّأ وتعرّض إلى "أولياء الأمر" بوصفه في العام 2011 الأمير محمد بن نايف أمام لجنة التحقيق الدولية "بالسفاح"؛ فهو حتماً زرع ضغينة وحقداً ضدّه في البلاط الملكي. أمام أول نكسة مالية لشركة الحريري "سعودي اوجيه" تخلّت عنه السعودية واتُخِذ القرار بعزلها عن العمل في السعودية. تفاقمت الأزمة الحريرية المالية. كان ذلك في تموز من العام 2016.
لم يؤخذ هذا الإجراء على محمل الجدّ اللبناني أو لم تُحسَن قراءته، أو ربما تمّت المراهنة بعيدا على علاقة الحريري بالنظام السعودي .(كنا قد كتبنا في تلك الحقبة مقالة نشرت عبر "النشرة "بعنوان: السعودية تخلت عن الحريري فهل ينقذه حزب الله؟).
بالمحصّلة؛ عُيِّن الرجل رئيساً لحكومة لبنان في العام 2017 وقضيته لم تكن قد أقفِلت في السعودية ولا في فرنسا حيث توجد دعوى قضائية على شركته مساقة أيضاً بجرم "الإفلاس الإحتيالي". جرم لو ثبتت عناصره، فعقوبته السجن. تابعت السعودية مواقف الحريري تجاه حزب الله وايران. وجّهت له الملاحظات. لم يكن الرجل على قدر متطلباتها الداخلية والخارجية. ارتباطاته ببعض الأمراء أثارت ريبة سعودية. ترقَّبت المملكة...
ثانياً: تمّ طعن الحريري سياسياً في الظهر من قبل بعض مَن هم أساساً من أهل البيت والخطّ. زيارات عدّة للسعودية قامت بها في الآونة الأخيرة شخصيات منضوية أصلاً تحت لواء الرابع عشر من آذار تلبية لطلب ولي العهد محمد بن سلمان وأمراء آخرين. ما تمّ تداوله معهم هناك سِرّاً بات علناً في البلاط المَلَكي .
استجدى بعضهم "إزاحة" الحريري من الساحة السياسية بسبب "محاباته" حزب الله ورئيس الجمهورية ما يؤثر على تزايد "خطر النفوذ الايراني" في لبنان.
هذا ما سمعه جيداً ولي العهد محمد بن سلمان على أكثر من لسان لبناني وسعودي وعربي واسرائيلي.
وأيضاً، الزيارات السعودية لاسرائيل لا شكّ حملت مشروعاً. ترحيب رئيس الحكومة الاسرائيلي بنيامين نتانياهو باستقالة سعد الحريري واعتبارها "صحوة عربية" دليل على أنّ اسرائيل سعَت لاستقالة أو لإطاحة الحريري. هدفها زعزعة استقرار لبنان .
فإذا كان الحريري فعلاً قد تهدّد بأمنه. فليصوّب الحريريون سهام الإتهام على العدو الإسرائيلي.
هذا ما لم نسمعه منهم بعد.
تعلم السعودية مَن هو بديلها لرئاسة الحكومة اللبنانية. أو فقد أحدهم صوابه هناك. سفيرها الى لبنان يقسم اليمين أمام الملك.
اختفى سعد الحريري. تخبّط لبنان بالتكهنات. اعتقاله إن كان حاصلاً على غرار ما حصل مع آخرين؛ شأن داخلي سعودي. الرجل يحمل الجنسية السعودية ولديه أعمال ومصالح وقضايا هناك. إن كان حرا طليقا، فهو أهان بلاده وشعبه وارتكب ما لا يمكن معه العودة الى الوراء. ترقّب لبنان... ترقّبت المملكة...
ثالثاً: صحة العاهل السعودي الملك سلمان تتدهور بشكل سريع. العلاقة الأميركية-السعودية بعد قمة الرياض اتّسمت بعناوين عريضة، هي "محاربة الإرهاب" و"مواجهة الخطر الإيراني" و"تفعيل العلاقة المالية الثنائية". كان ولي العهد الأمير محمد بن سلمان قد وضع رؤيته الإصلاحية التي لاقت ترحيبا شعبيا ودوليا. تثبيت تنصيبه ولياً للعهد وملكاً على السعودية في المرحلة المقبلة بات أمرا أولوياً اليوم في ظل حاجة السعودية لإعادة التموضع على الساحة الإقليمية والدولية. تسارع وتيرة الأحداث في سوريا والعراق واليمن ولبنان فرضت انتهاء الترقب والمضي قدما نحو الأهداف. "محاربة الفساد" بضربة جامعة في يوم واحد، تتمثل بتوقيفات واعتقالات واقالات لأمراء ورجال أعمال نتيجة قضايا متعددة وغير مترابطة؛ يذكّر "بإصلاحات" الرئيس التركي رجب الطيب أردوغان عقب "محاولة الإنقلاب". فهل كان الأمير سلمان متخوفاً من انقلاب عليه؟ أما طلب الرئيس الأميركي دونالد ترامب من السعودية طرح أسهم أرامكو ببورصة نيويورك في اليوم نفسه فهي لا شك أنها امتحان لقدرة ولي العهد على تنفيذ التزامات المملكة لوعودها المالية.
في المقلب الآخر؛ حلّ حكومة لبنان التي تضم وزراء لحزب الله، عبر استقالة رئيسها، خطوة تنفيذية لمشروع التصعيد السعودي-الأميركي-الإسرائيلي بوجه ايران.
وحزب الله. لوّحت سابقا الادارة الأميركية بتشديد وتوسيع دائرة العقوبات. لم تترقّب السعودية، بل بادرت .هل ستقبض السعودية على يد الأمير محمد بن سلمان ثمن استراتيجيتها هذه ازدهارا سياسيا واقتصاديا وأمنيا داخليا ودوليا؟ أم ستدفع ثمناً غالياً؟. المشهد في السعودية يدلّ أن الأمور ذاهبة نحو أزمات داخلية إضافة لأزماتها الخارجية. والسؤال محوري، هل سيبقى محمد بن سلمان ولياً للعهد؟.
أما في لبنان، ندخل مرحلة جديدة عنوانها، المعارضة للحكم، لحزب الله ولمحور المقاومة. معارضة مدعومة بكل أوجهها من جهات عربية واقليمية ودولية. يُراد للبنان التجربة السورية التدميرية تحت عنوان "معارضة مسلحة" أو التجربة اليمنية الدموية تحت عنوان "الحكومة الشرعية". (استقالة الحريري شكلا ومضمونا تشبه استقالة الرئيس الثاني اليمني عبد ربه منصور هادي). الحالتان مستحيلتان. كلّ شيء يدلّ أنّ المفاجآت لن تتوقف من كل الأطراف. محور المقاومة، أيضا، لن يتوقف عن "محاربة الإرهاب".