كثرت خلال اليومين الماضيين التحليلات والتكهّنات القائلة بأنّ استقالة رئيس الحكومة سعد الحريري "طيّرت" الانتخابات النيابية المرتقبة في أيار 2018، أو بالحدّ الأدنى، وضعتها في مهبّ الريح، خصوصًا أنّها أتت في وقتٍ لم تحسم فيه اللجنة الوزارية المعنيّة الآليات التطبيقية لقانون الانتخاب أصلاً، فضلاً عن كونها أدخلت البلاد في مجهولٍ لن يعرف أحد كيف ومتى سيخرج منه.
صحيحٌ أنّ هذه المقاربة تحمل الكثير من المنطق والواقعية، إلا أنّ النظر إلى "النصف المليء من الكوب" يمكن أن يقود إلى وجهة نظر مضادة، تقوم على أنّ الانتخابات وحدها يمكن أن تكون المَخرَج للأزمة المستفحلة، خصوصًا في ظلّ ما يُحكى عن صعوبة بل استحالة لتشكيل حكومة جديدة في المدى المنظور، بل إنّ هناك من يعتقد أنّ الحياة قد تُكتَب من جديد لاقتراح رئيس المجلس النيابي نبيه بري بإجراء انتخابات نيابية مبكرة...
بين "زلزالي" 2005 و2017
مع إعلان رئيس الحكومة سعد الحريري استقالته من الحكومة من المملكة العربية السعودية، وقبل أن يظهر الغموض الكبير حول ملابساتها ودوافعها، ويبدأ الحديث عن ضغوطٍ تعرّض لها الحريري وصولاً حتى خضوعه للاقامة الجبرية، كما يعتقد كثيرون، لم يتردّد معظم اللبنانيين بتوصيف الحدث بـ"الزلزال"، إسوةً بـ"زلزال" 14 شباط 2005، الذي تمثّل باغتيال رئيس الحكومة الأسبق رفيق الحريري، علمًا أنّ بيان الاستقالة الذي تلاه "الشيخ سعد" تضمّن مقارنةً بين الحدثين، بإشارته إلى أنّ الظروف التي يعيشها لبنان اليوم شبيهة بتلك التي شهدها قبيل اغتيال الحريري.
وتمامًا كما أنّ "زلزال" 2005 أتى عشيّة التحضير لانتخاباتٍ نيابيّة صُنّفت على أنّها مفصليّة ومصيريّة، فإنّ "زلزال" 2017 يأتي أيضًا عشيّة التحضير لانتخابات نيابية "مفترضة" يُعتقَد أيضًا أنّها ستكون مفصليّة ومصيريّة، ليس فقط لكونها الأولى من نوعها منذ تسع سنوات حُرِم خلالها اللبنانيون من أيّ استحقاقٍ انتخابيّ نيابيّ ديمقراطيّ، بل قبل ذلك، لأنّها ستتمّ، إن حصلت، بموجب قانون انتخابيّ جديد يعتمد النظام النسبيّ للمرّة الأولى في تاريخ لبنان، ولو بصورةٍ مشوّهة لا ترقى لتطلعات اللبنانيين لجهة دقة التمثيل وعدالته.
وتمامًا كما قيل في العام 2005 انّ "زلزال" اغتيال الحريري "طيّر" الانتخابات النيابية، التي لا يمكن أن تحصل على وقع الأزمة السياسية المستفحلة التي شهدتها البلاد، والتي تطوّرت أمنيًا، مع موجة التفجيرات والاغتيالات المتنقّلة التي شهدها لبنان على مدى أشهر طويلة، فإنّ معظم الخبراء والمحلّلين سارعوا للقول أنّ استقالة الحريري "طيّرت" الانتخابات، علمًا أنّ مثل هذا الاستنتاج لا يحمل بين طيّاته أيّ مبالغةً، باعتبار أنّ "تطيير" الانتخابات فرضيّة قائمة اليوم أكثر من أي وقت مضى، بعدما مدّدت القوى السياسية للمجلس النيابي ثلاث مرّات متتالية وكانت تمنّي النفس بمرّةٍ رابعة وفق أيّ ذريعةٍ كانت، خصوصًا أنّها لم تكن مرتاحة للقانون الانتخابيّ الذي أقرّته "تحت الضغط".
لكن، وبعيدًا عن الأمنيات والنوايا، يمكن القول إنّ قناعة راسخة تولّدت لدى العديد من الأفرقاء بأنّ حصول الانتخابات في موعدها، أو حتى قبله، قد لا تكون مَخرَجًا فحسب للأزمة بل المَخرَج الوحيد لها، خصوصًا أنّ كلّ المعطيات تؤكد أنّ تشكيل حكومة جديدة اليوم، أياً كان شكلها، عملية مستعصية، إلا في حال الاتفاق على حكومة لا وظيفة لها سوى الاعداد للانتخابات، وهي حكومة لا توافق حول شكلها الآن بعد سقوط خيار الحكومة الحيادية أو "التكنوقراط"، في ضوء رفض "حزب الله" وحلفائه لفكرة "الخضوع" للإرادة السعودية والغربية بإخراج "الحزب" من الحكومة، ما يغلّب فكرة بقاء حكومة تصريف الأعمال حتى أجلٍ مسمّى، تحدّده الانتخابات النيابيّة.
القرار سياسيّ...
انطلاقاً من ذلك، تشكّل تجربة العام 2005 والأزمة التي مرّ بها لبنان بعد اغتيال رئيس الحكومة الأسبق رفيق الحريري، والتي لم تنتهِ إلا بانتخاباتٍ نيابيّة شكّلت متنفّسًا للبنانيين "المحتقنين" وغيّرت الكثير من المعادلات، نموذجًا يمكن الاقتداء به اليوم، للخروج من الأزمة التي تمرّ بها البلاد، باعتبار أنّ العودة إلى الشعب مسألة ضروريّة في فترات الأزمات، كما أنّ الانتخابات، متى حصلت، من شأنها أن تفرز صورة سياسيّة جديدة ومعادلات جديدة، خصوصًا إذا ما تحوّلت إلى ما يشبه "الاستفتاء" على الخيارات السياسيّة التي يريدها الشعب، من دون أن ننسى أنّها تنقل الصراع السياسي من المنابر والساحات إلى حيث يجب أن يكون، أي صناديق الاقتراع.
وإذا كانت الانتخابات المبكرة، من الناحية التقنية، غير محبّذة، بحسب الخبراء الانتخابيّين، وذلك لحسابات واعتبارات كثيرة، من بينها عدم المساواة بين المرشحين، الذين لن يكون لديهم الوقت الكافي لاطلاق حملاتهم الانتخابية، فضلاً عن كونها تؤثر على ديمقراطية الانتخابات لجهة احترام المهل، فإنّ الأكيد أنّه، وبخلاف ما يسعى البعض لترويجه، فلا عراقيل تقنية على الإطلاق أمام إجراء الانتخابات في موعدها إن لم يكن قبل ذلك، خصوصاً أنّ الحكومة سبق أن عيّنت هيئة الاشراف وأقرّت الاعتمادات المالية، وبالتالي فإنّ تنظيم العملية الانتخابية يقع في سياق تصريف الأعمال ولن يحتاج لاجتماع لمجلس الوزراء.
لكن، رغم هذه الحقائق والمعطيات، التي لا تدخل في سياق الاجتهادات أو التكهّنات، تبقى الخشية من وجود قرار سياسي مهّدت له الاستقالة بتطيير الانتخابات خشية من نتائجها، وهو ما بدأ يتداوله الكثيرون في الصالونات السياسية، من خلال القول أنّ الحريري حاول عبر استقالته، وبدفعٍ من السعودية، الهرب من الانتخابات، وهو ما يمكن أن يتحقق له إذا لم يتمّ تشكيل حكومة جديدة، باعتبار أنّ وزير الداخلية نهاد المشنوق لن يقبل بدعوة الهيئات الناخبة من دون حكومة توفّر له الغطاء اللازم. ولكن، في مقابل وجهة النظر هذه، هناك من يقول أنّ استقالة الحريري من الحكومة، والتعاطف الذي لقيه، يفترض أن يجد ترجمة له في الانتخابات، وبالتالي فإنّ الحريري أراد من خلال هذه الخطوة تعزيز رصيده الشعبي، بعدما وصل لمرحلة متدنية، نتيجة التنازلات التي قدّمها، ما يعني أنّ حصول الانتخابات اليوم قبل الغد قد يكون في صالحه، إن عاد، أو في صالح تيّاره السياسيّ بالحدّ الأدنى.
أين العائق؟!
القرار سياسيّ. هي الخلاصة الأساسيّة السابقة لاستقالة رئيس الحكومة واللاحقة لها. فعلى الرغم من أنّ معادلة ما قبل استقالة الحريري ليس كما بعده دقيقة ولا غبار عليها، فإنّ الصحيح أيضًا أنّ إجراء الانتخابات النيابية في موعدها، أو قبله، ممكن دستوريًا ولوجستيًا وتقنيًا، بوجود حكومة أو من دونه، والعائق، إن وُجد، سياسيّ حصرًا.
من هنا، وأبعد من هذا القرار، يبقى كلّ شيء مرهونًا بمعطيات المرحلة المقبلة، فهل ستذهب القوى السياسية لاستفتاء الشعب من خلال الانتخابات، أم أنّ هناك من يريد للبنان أن يتحوّل لساحة تصفية حسابات من نوعٍ آخر، وأخطر من دون أدنى شكّ؟!