دخل لبنان بعد البيان المكتوب الذي تلاه رئيس الحكومة اللبنانية سعد الحريري من الرياض وضمّنه إعلان استقالته من منصبه كرئيس مجلس الوزراء ومهاجمة إيران ونعتها بأقذع الأوصاف، دخل هذا البيان وأدخل لبنان في متاهة رهيبة وأظهر عيوب النظام السياسي اللبناني والواقع الدستوري عامة وموقع رئيس الوزراء وارتباط الانتظام السياسي والحكم في لبنان بشكل عام به، وفرض على كلّ المعنيّين وكلّ في نطاقه مواجهة الأخطار التي تسبّب بها المشهد الذي تشكّل منذ تلاوة سعد الحريري للبيان، فما قيمة البيان؟ وما هي تداعياته ومفاعيله وانعكاسه على الوضع اللبناني؟
قبل أيّ شيء نعتبر ما حصل بدءاً من الدعوة الاستدراج إلى تلاوة البيان وما أعقبها من تمادٍ في اعتقال رئيس الحكومة اللبنانية هو عدوان على لبنان ترتكبه السعودية ضدّ دولة مستقلة ذات سيادة، حيث انها استدرجت رئيس حكومته إليها وفرضت عليه الاستقالة ثم وضعته قيد الاعتقال والإقامة الإجبارية ومنعته حتى من الاتصال مع رئيس الجمهورية. كلّ هذا يعطي للبنان الحق بملاحقة السعودية بصفتها دولة معتدية على سيادته وكرامته ومتسبّبة بنشوء حالة عدم استقرار متعدّد الوجوه في الداخل اللبناني، ما يخلّ بانتظام سير عجلة الحكم والحياة العامة فيه.
وبعد هذه الحقيقة نعود ونبحث في طبيعة البيان من وجهة قانونية لتحديد ما إذا كان هو بيان استقالة حقيقية أم لا؟ وهنا نقول وعودة إلى القواعد الإدارية والقانونية والدستورية العامة، إنّ العمل القانوني الصحيح هو العمل المستوفي شروط الزمان والمكان وصلاحية الشخص وإرادته الحرة. وإنّ بيان رئيس الحكومة لا يستوفى شرطَيْ المكان والإرادة الحرة فقد أعلن من خارج لبنان، وتلي تحت الإكراه حيث تلاه رئيس الحكومة وهو بحكم المعتقل لدى السلطة السعودية التي فرضت عليه إعلان استقالة لا يريدها لتجرّده من حصانة تحميه ولتتمكّن من ملاحقته كشخص من التابعية السعودية، من دون أن تصطدم بعقبة الصلاحية القضائية الشخصية والإقليمية.
لكن لبنان ووفقاً لأحكام القانون الدستوري والإداري لا يُقرّ بصحة الاستقالة مع تخلّف شرطيْن من شروطها، وبالتالي فإنه يتعامل مع المسألة أو عليه أن يتعامل معها على أساس أنّ سعد الحريري لا يزال رئيساً للحكومة وأنه بحكم المعتقل أو المخطوف من قبل السلطات السعودية. وبالتالي يكون الموقف الذي اتخذه الرئيس ميشال عون مبرّراً قانونياً ودستورياً بامتناعه حتى اللحظة عن قبول الاستقالة ورفضه البدء باستشارات نيابية لتشكيل حكومة جديدة مشترطاً عودة الحريري والاستماع اليه ليبني على الشيء مقتضاه. أما الذين يستعجلون الرئيس لدفعه إلى موقف معاكس فإنّ مواقف هؤلاء تعتبر مواقف سياسية تتصل بارتباطهم بمن أملى الاستقالة – الإقالة وتأكيد الارتهان له لإنفاذ مشيئته في لبنان، فضلاً عن كونها سلوكيات تفتقد الأخلاق والكرامة الوطنية.
بيد أنّ الأمر الآن لا يتوقف ولن يتوقف عند هذا التنازع بين مَن يعتبر أنّ الاستقالة غير موجودة وغير قائمة قانوناً وبين مَن يُصرّ على الأخذ بها وطي صفحة سعد الحريري وتركه بين يدي جلاديه السعوديين الذين يحمل جنسيتهم. فللأمر انعكاس على لبنان لا بل انّ هناك فضائح أظهرتها الإقالة أخطر بكثير من مسألة استقالة حكومة وتشكيل سواها. فالإقالة أظهرت في الحدّ الأدنى مساوئ وعيوب في النظام السياسي والدستور اللبناني لا يمكن السكوت عليها، ويجب على اللبنانيين المبادرة ومن دون إبطاء لمعالجتها حتى لا يحدث ما هو أمرّ وأدهى بالمصلحة الوطنية العامة، ولذلك وبحكم ما نعرف وما نرى نطالب بمعالجة العيوب التالية في النظام والدستور:
1 ـ مسألة تعدّد الجنسيات التي يحملها المسؤول تعتمد الدول كلها تقريباً في العالم مبدأ حظر تعدّد جنسيات المسؤول في الدولة وتتشدّد أكثر في المناصب السياسية العليا. ويُمنع إسناد منصب سياسي لمن يحمل جنسيّة ثانية، إضافة إلى جنسيته الأصلية أو الجنسية المكتسبة. وإذا اختير شخص لمنصب ما وكان متعدّد الجنسيات يخيّر بين المنصب والجنسيات الأخرى، فإنْ اختار المنصب عليه أن يتخلى عن الجنسيات الأخرى. وهنا نرى أن يطبّق هذا الحكم في لبنان خاصة بالنسبة لموظفي الفئة الأولى من الموظفين وكلّ الأسلاك إضافة إلى الوزراء والنواب ورئيس الجمهورية. وعندها لا يكون لأيّ دولة في العالم وبحكم الجنسية أيّ صلاحية على شخص يتولى منصباً رفيعاً في لبنان.
2 ـ مسألة صلاحيات رئيس مجلس الوزراء. يُعتبر لبنان اليوم في حالة انعدام السلطة التنفيذية وهو لا يستطيع ان يتخذ أيّ قرار، صغر هذا القرار أم كبر، تافهاً كان أم خطيراً، لا يمكن ان يُتخذ في ظلّ غياب رئيس الحكومة، لأنّ السلطة التنفيذية هي حصرياً في مجلس الوزراء مجتمعاً ولا يُدعى ولا يُعقد مجلس الوزراء إلا بدعوة من رئيس الحكومة وبحضوره ولا يمكن لأحد أن ينوب عنه في هذا المجال. وهذا ما كنا دائماً نطرحه ونسلّط الضوء عليه ونحذّر منه ونعتبره من أبشع وأسوأ ما جاء به اتفاق الطائف. فحسب الدستور والقانون لكلّ موقع في النظام بديل ينوب عنه ما عدا رئيس الحكومة لا يحلّ مكانه أحد، فرئيس الجمهورية يحلّ مكانه مجلس الوزراء مجتمعاً، ورئيس مجلس النواب يحلّ مكانه نائبه والوزير يحلّ مكانه وزير بالوكالة، وهكذا أما رئيس الحكومة فلا أحد يحلّ مكانه…
والآن حتى ولو أخذنا برأي من يقول بنفاذ الاستقالة وهو غير صحيح، كما بيّنا – فإنّ الدولة حاضراً بلا سلطة تنفيذية بغياب رئيس الحكومة، لأنّ تصريف الأعمال بذاته بحاجة أيضاً الى رئيس حكومة مستقيل يصرّف الأعمال. وفي الحالة الراهنة لا يوجد هذا الشخص.
إنّ طرح الموضوع الآن رغم حساسيته في هذا الظرف وصعوبة المعالجة ليس من أجل إثارة مزيد من التعقيدات في وجه من يبحث عن الحلول، بل من أجل إيجاد حلّ لمسألة جوهرية ملحة تتعلق بالانتظام العام وتستدعي حلاً من دون إبطاء…
إذ يجب ان تحلّ مسألة من ينوب أو يقوم مقام رئيس الحكومة المغيّب أو الغائب خارج لبنان، أقله في المسائل الطارئة الملحة التي لا تحتمل التأجيل ولهذا فإننا نوصي ونقترح العمل في الظروف الاستثنائية التي فيها أنّ «الضرورات تبيح المحظورات» وأن يُصار الى تعيين وزير من وزراء الحكومة الحالية بمنصب قائم بأعمال رئيس الحكومة بقرار من رئيس الدولة ويصوّت عليه مجلس النواب، أو يفسح المجال أمام نائب رئيس مجلس الوزراء للقيام بمهام رئيس الحكومة في نطاق ضيّق محصور، فالمهمّ لدينا أن يكون في الدولة سلطة تنفيذية قادرة على مواجهة الحالات الطارئة.
إنّ الدفاع عن لبنان يفرض عدم الرضوخ لمطالب المعتدي، ويفرض إيجاد الحلول التي لا تشكّل في طبيعتها استجابة للمعتدي، وعليه فإنّ علينا التمسك بالحكومة القائمة التي يريد العدوان الإطاحة بها تمسكاً ثابتاً مهما كانت المحاذير الدستورية وأنّ نظرية الظروف الاستثنائية تحمل في ثناياها حلولاً لكلّ ما يمكن أن ينبثق من الدستور من عقبات، قادرة على معالجة الأمر، ولهذا يجب أن نرفض الإقرار بالاستقالة حتى يعود رئيس الحكومة إلى مكتبه ويمارس وظيفته رئيس حكومة تصريف أعمال في مدة إعادة تشكيل حكومة. هذا إذا أصرّ على الاستقالة، فإنْ فعل واستقام الوضع لتشكيل حكومة فيجب أن تشكل حكومة سياسية وسياسية حصراً لا تستجيب لشيء من مطالب السعودية، فإنْ رفض فريق من اللبنانيين ذلك فليسر رئيس الجمهورية بالباقي ممن يتمسّكون حقيقة بالكرامة والسيادة الوطنية. وفي لبنان مَن هم على هذا النحو من الكرامة والعزة الوطنية. وهذا ما تجلّى حتى الآن وبوضوح من مواقف رئيسَيْ الجمهورية ومجلس النواب وقائد المقاومة في لبنان.