عندما يزور الوزير السعودي ثامر السبهان واشنطن، فإن هذا يعني أن لبنان على طاولة البحث وأن مصير الرئيس سعد الحريري بصفته رئيساً للحكومة اللبنانية هو المطروح، لكن الأهم هو الدليل القاطع على أن الولايات المتحدة الأميركية أشرفت على كلتا العمليتين السعوديتين بأدق وأعمق تفاصيلهما. الأولى تلك المتعلقة بإجراءات مكافحة الفساد، كما أراد الامير محمد بن سلمان تسميتها وما ترتّب عن ذلك إطاحة أمراء ومسؤولين سعوديين كثر، والثانية إطاحة الحكومة اللبنانية عبر الطلب من الحليف سعد الحريري الاستقالة، وإعلان ذلك من الرياض.
لم يكن هذا الإعلان نتيحة سقطة أو هفوة او سوء حساب، بل هو أحد مؤشرات النبرة السعودية العالية تجاه لبنان، بالأحرى تجاه ايران حيث الوجود عبر نفوذ الحلفاء الذين أظهروا تقدماً ملحوظاً في الساحة السياسية بعد تقدم محور القتال الميداني في سورية لصالح روسيا وايران وحزب الله بالشكل الذي جعل صرف النتيجة محلياً يتجلى في تغيير شكل العهد وتطلعات الدولة. أرادت السعودية القول إن الاستقالة من الرياض تعني رغبة مباشرة من السعودية من دون حرج. وهي تدرك أن التبريرات كلها لا تُخفي هذه الرغبة وشكلها، وتدرك أيضاً أنها ترغب في وضع الجميع أمام هذه الصورة «انتهى عمر التسوية في لبنان».
بالعودة الى واشنطن، فإن الوزير السبهان المكلف من الامير محمد بن سلمان ملف لبنان يكشف في الإعلان عن هذه الزيارة امرين أساسيين:
الاول: أن المملكة العربية السعودية تنسق مع الولايات المتحدة تنسيقاً كاملاً بكل ما يتعلق بالوضع المستجد في لبنان، وأن سياستها هي ترجمة لرغبة أميركية في «إزعاج» ايران عبر لبنان، وبالتحديد حلفاءها، خاصة حزب الله، خصوصاً بعدما صارت المعركة مباشرة بين الإدارة الأميركية وحزب الله بعد أن صار الأخير أحد أهدافها، وليس «إسرائيل» التي كانت ترى في الدعم الأميركي بوجه حزب الله تنفيذاً لمصالحها ليصبح أي هجوم او تصعيد سعودي بوجه حزب الله، هو ترجمة لتصعيد أميركي يتطلّب هذا التنسيق الدقيق.
ثانياً: إن زيارة السبهان في هذا التوقيت الحساس جداً لواشنطن، حيث العيون شاخصة نحو ارتدادات عملية «التطهير» الشامل التي أقدم عليها ابن سلمان تعني ان هناك حالة من الإرباك تطلب الاجتماع بالمسؤولين الأميركيين من أجل اتخاذ قرار واضح بآلية العمل التنفيذية في المرحلة المقبلة، خصوصاً في ما يتعلق بالملف الأكثر «إنتاجية»، بالنسبة للأميركيين. وهو الحكومة اللبنانية التي تمثل نقطة الضغط المباشرة على حزب الله ومن ورائه إيران بحيث يمكن لواشنطن استثمار فكرة الحرب على ايران بأشكالها المتعددة من بوابة لبنان، حيث يمكن ممارسة الضغوط في الوقت الذي فشل فيها مشروع قيام دولة كردستان وتقدّم النظام السوري بشكل طاغٍ مع حلفائه على الميدان وصولاً الى عدم القدرة حتى اللحظة على حسم مصير الحرب في اليمن وكلها أوراق رابحة لإيران إن لم تكن أوراق تكشف قدرة صمود ايرانية واضحة.
من جهة أخرى يؤكد على هذا الارتباط بين الإدارة الأميركية والإدارة السعودية في ما يتعلق بمصير حكومة لبنان واعتبارها نقطة التحدي لإيران هو ما أعلنته وزارة الخارجية الأميركية عبر المتحدثة باسمها هيذر ناورت أن القائم بأعمال السفارة الأميركية في الرياض التقى الأربعاء 8 تشرين الثاني بسعد الحريري الرئيس الذي استقال، وهو في السعودية على حد وصفها، وفي معرض أسئلة الصحافيين عن تقارير تتحدّث عن احتجاز الحريري رفضت التأكيد او النفي او الحديث عن مكان اللقاء الذي جمع بين قائم أعمال بلادها والحريري.
يقول مصدر سياسي مطلع لـ «البناء» إن المعركة اصبحت في مكان واحد وتتلخص بمنطق المعادلة اليمنية مقابل لبنان، حكومة يمنية تراعي الشريك السعودي وتقضم اليد الإيرانية مقابل حكومة تسوية في لبنان. أي استرداد الصيغة التي فشلت في تكوين أرضية انتقال مريح للسلطة في اليمن. وهو رهان طال وحان الوقت للانتهاء من آثار هذه الحرب. يضيف المصدر «أن أكثر مَن يهمه انتهاء الحرب هو الامير محمد بن سلمان، لكي يدخل الى مرحلة تنصيب على العرش السعودي، وهو متمكن من السيطرة على الجيش وكل مفاصل الدولة من دون الإبقاء على ثغرات مفتوحة بحجم تلك الحرب. وبالتالي فإن التصعيد السعودي هذا مطلوب من أجل التوصل في نهاية المطاف الى حل يضع كل شيء على طاولة المفاوضات هذه المرة مباشرة بين ايران والسعودية».
السبهان المكلف بالملف اللبناني سيعود هذه المرة مع رؤية تنفيذ التعليمات الأميركية تجاه لبنان، إضافة الى مقترحات سعودية حول ادارة المشهد اللبناني بتعقيداته مع تحديد الساعة الصفر بعودة الحريري لتقديم استقالته في بيروت، وإلا فإن «الستاتيكو» السياسي سيحكم الموقف، طالما أن الرئاسة الأولى والرئاسة الثانية ترفضان الاعتراف باستقالة الحريري.
اللافت في هذا الإطار هو كشف السعودية تحركاتها في هذه اللحظة العصيبة ولقاءات مسؤوليها مع الولايات المتحدة كمرجعية قادرة على ضخ الزخم والدعم الكفيل بإنجاح مرحلة «التطهير» في الديوان الملكي، ومرحلة إدارة المرحلة المقبلة في لبنان حتى تاريخ الانتخابات النيابية، وذلك من دون أي ميل إلى إخفاء هذا التناغم الكبير مع الأميركيين.
وبالانتظار يترقب اللبنانيون دفعة جديدة من إشارات السبهان في الساعات المقبلة من المفترض أن تكون زاخرة هذه المرة.