يعيش العالم اليوم مخاضَ تشكّل النظام العالمي الجديد، بعدما أمسكت الولايات المتحدة الاميركية بعنق العالم منذ مطلع التسعينيات من القرن الماضي، وما الحرب الكونية التي تُخاض في المنطقة منذ بداية الفوضى الخلاقة التي بشّر بها المحافظون الجدد، والتي انطلقت في بداية العام 2011 والتي أطلق عليها مستشار الرئيس السابق باراك أوباما الدكتور "مارك لينش" أستاذ العلوم السياسية في جامعة واشنطن، تسمية "الربيع العربي" إلا أحد إرهاصاتها، والتي بذلت فيها الولايات المتحدة والغرب وبعض العرب كل جهدهم لتغيير الخريطة السياسية في المنطقة، واستلّوا الخطة البديلة من أدراجهم، بعد عزوفهم عن التدخل المباشر، وبعدما حضر الجيش الأميركي بقضّه وقضيضه، ومارس الاحتلال المباشر، وأعلن عن نفسه من خلال استعراضاته في البر والبحر والجو، في شن حرب نفسية وإعلامية على شعوب المنطقة، للإيحاء بأن هذه الترسانة العسكرية التي لم تتوفر لأحد في تاريخ البشرية، هي قضاء وقدر، على الشعوب أن ترضى بها وبتوجهاتها وبسياساتها. وانجلى غبار المعركة عن هزيمة واضحة للأميركيين والبريطانيين وحلفائهم في كل من العراق وأفغانستان. والتي كان من نتائجها المباشرة كانت اتخاذ المؤسستين العسكرية والسياسية في الولايات المتحدة قرارًا حاسمًا بعدم العودة إلى هذا الشرق تحت أي اعتبار.
لقد مثّلت الفوضى الخلاقة التطبيق الوفي للمشروع القديم الذي تقدّم به المفكر البريطاني الجنسية الصهيوني الهوى "برنارد لويس" في العام 1980 ووافق عليه الكونغرس بعد ثلاث سنوات، والذي يقضي بإعادة تقسيم الشرق الأوسط إلى كيانات مذهبية وطائفية وعرقية، وهو ما أطلق عليه الجنرال الأميركي "رالف بيترز" في دراسته التي نشرها مركز "راند" التابع لوزارة الدفاع الأميركية، عنوان "حدود الدم" في العام 2006، والتي تمثّل نسخة معدلة لمشروع "لويس"، والتي رسم فيها الحدود الجديدة للمنطقة بدماء أهلها، ورضيت الجماعات المسلحة الإرهابية من القاعدة وأخواتها في أن تكون الوسيلة والأداة لتحقيق هذه الرؤية. لكن حساب الحقل الأميركي لم يتطابق مع حساب البيدر، فوقف محور المقاومة ندًا عنيدًا في وجه هذا المشروع الذي نشهد اليوم نهاياته "المفجعة" للأميركي وحلفائه، بعد سقوط آخر معاقل "داعش" في كل من سوريا والعراق.
في هذه اللحظة الإقليمية والدولية المفصلية، تدخّل السعودي بشكل مباشر على خط الحرب الكونيّة، محاولًا عبر التهويل والتهديد والوعيد أن يعيد عقارب الساعة إلى الوراء، بعدما أيقن الجميع، وعلى رأسهم الأميركيون والغرب سقوط المشروع وهزيمته في هذه الجولة الكبيرة من الحرب.
استقالة سعد الحريري
تأتي استقالة رئيس الحكومة اللبنانية سعد الحريري بالسيناريو الهزلي الذي حصلت فيه لمحاولة التخفيف من الخسارة الفادحة، والتي حاول السعوديون توطيفها من خلال بعثرة أوراق اللعب عبر الصراخ عالي النبرة الذي تمثّل في التصريحات النارية لوزير الدولة لشؤون الخليج ثامر السبهان والحكم السعودي، بالتهديد بقرع طبول الحرب على محور يمتد من إيران إلى العراق وسوريا إلى بيروت، بدعم روسي وصيني وازن، وهو الذي هزم تحالفًا في الميدان وفي السياسة، ضم أكثر من مئة وثلاثين دولة، تتقدمه الولايات المتحدة، واستخدم مئات الآلاف من المقاتلين العقائديين من القاعدة وأخواتها، الذين ارتضوا أن يكونوا رأس حربة في مواجهة هذا المحور.
الخيارات السعودية العسكرية
لقد حضرت السعودية في الوقت الضائع، واللعبة على شفير النهاية، كلاعب احتياط لا يحمل مواصفات عالية. فما هي الخيارات المتاحة أمامها، وكيف تستطيع تغيير وجهة الحرب الكبرى؟ بعد إعلانها الحرب على المقاومة في لبنان، وعلى الحكومة اللبنانية، ومن ورائهما إيران، فكيف ستستطيع هزيمة المقاومة التي عجزت عنها كل من الولايات المتحدة وإسرائيل. ناهيك عن هزيمة إيران؟.
القصف البحري والجوي للمقاومة في لبنان
يؤدي العامل الجغرافي دورًا معيقًا للأهداف السعودية، إذ إنّ لبنان ليس على حدود المملكة، وبالتالي فإنّ أي استخدام لصواريخ استراتيجية تُطلقُ من البحر أو من الجو يحتاج إلى استخدام الأجواء السوريّة أو المياه الدولية أو أجواء فلسطين المحتلة لتحقيق هذا الغرض. في هذا السياق، سألت صحيفة "رأي اليوم" مسؤولين عسكريين، وخبراء من الغرب عن إمكانية تحقيق هذه الفرضية للأهداف الموضوعة؟ تقول الجهات الخبيرة في الحروب، إنّ السعودية تشكّل مفارقة في التاريخ العسكري، فهي من الدول العشر المقتنية للعتاد الحربي، ولكنها من الدول التي تعتمد على اتفاقيات ثنائية وجمعية، وخصوصًا مع الولايات المتحدة للحصول على الحماية، لأنها عاجزة عن تأمين الحماية لنفسها، بالإضافة إلى أنها لا تملك سجلًا حربيًا في مواجهات عسكرية في العقود الأخيرة، والتجربة الوحيدة التي دخلتها وتزعمتها كانت عاصفة الحزم، وهي حرب خاضتها ضد بلد فقير ومنهك ومشتت اجتماعيًا وأمنيًا، وبعد ثلاث سنوات من الحرب المدمرة والحصار القاسي، ها هي الحرب تدقّ أبواب الرياض، والحوثيون يصولون ويجولون في المناطق الحدودية.
يقول الخبراء إنّ السعودية تمتلك سلاحًا جويًا قويًا، ولكنها لا تمتلك تجربة في ضرب الأهداف، وما يحصل في اليمن من قتل للمدنيين دليل واضح على ذلك. وإذا ما أرادت السعودية ضرب أهداف لحزب الله فعليها أن تتزود بالوقود من خلال استخدام طائرات F15 وTORNADO، ولكنها ستواجه عراقيل كبيرة تمنعها من تحقيق أهدافها، ومنها:
أولًا: لا توجد أهداف عسكرية واضحة للمقاومة في لبنان كقواعد عسكرية مكشوفة لاستهدافها، فحزب الله حالة اسثنائية، فهو يمتلك جيشًا غير مركّز ومخفيًا يستحيل القضاء عليه، سوى بتدمير لبنان بكامله.
ثانيًا: لكي تضرب الطائرات السعودية لبنان عليها أن تستخدم الأجواء السورية، وهذا غير ممكن أبدًا، أو أن تستخدم الأجواء الفلسطينية المحتلة، وهذا ما لن تسمح به إسرائيل، لأنها بذلك تكون قد أعلنت الحرب على المقاومة وعلى لبنان، ولو أرادت إسرائيل ذلك لن تنتظر هذه الملهاة السعودية.
ثالثًا: لا تمتلك السعودية أسطولًا عسكريًا بحريًا يبحر قبالة السواحل اللبنانية، وتجربة ساعر 5 حاضرة في الوجدان الإسرائيلي الذي صار بعد حرب 2006 يبتعد عن المياه الإقليمية.
رابعًا: لا تمتلك السعودية قوات قتال نخبوية للعمليات الخاصة، كالولايات المتحدة وإسرائيل وروسيا وغيرها، وهو ما عزفت عنه إسرائيل بعد ملحمة أنصاريه. ولو كانت السعودية تمتلك مثل هذه القوة لكانت أظهرت بأسها في مواجهة اليمنيين.
إذًا، في المحصلة يتبيّن أن النتائج العسكرية واضحة وغير مجدية، وتريحنا من عناء التحليل. هذا إذا اعتبرنا أنّ المقاومة في لبنان ستقف مكتوفة الأيدي تتفرج مبتسمةً على الاعتداء الواضح عليها بهذا الشكل، وهذا موضوع آخر لن نخوض نقاشه الآن.
العبث بالأمن اللبناني
الخيار الآخر للسعوديين هو العبث بالأمن اللبناني من خلال استخدام العمليات الأمنيّة، معتمدة على غير مصدر لتحقيقه. فبعد تجربة فتح الإسلام في العام 2007 وسقوطها، وبعد تجربة تسليح بعض اللبنانيين تحت عنوان الشركات الأمنيّة ودفعهم الى مواجهة المقاومة في 5 ايار، كانت النتيجة كما يعلم الجميع أيضًا، فيصبح الاعتماد عليه إن وُجِدَ حاليًا، في خانة الخيار الخاسر.
يبقى سلاح الاستعانة بالجماعات الإرهابية، للعبث بالأمن عبر التفجيرات والعمليات الانتحارية، عبر استخدام الخلايا النائمة من القاعدة وداعش والنصرة، ومن قليل من النازحين السوريين، قد يفي بالغرض، مع العلم ان الأجهزة الأمنية الرسمية أصبحت تمتلك خبرة واسعة لمكافحة هذه الجماعات، التي يستعين بها الغرب والولايات المتحدة، إضافة الى استهلاك هذه الورقة في السنوات الماضية. تبقى بعض الخيارات الأخرى غير المجدية، كالاغتيالات وغيرها، ووضع سيناريوهات هوليودية، لن نخوض فيها منعًا لتوتير الأجواء وتخويف الناس، وهي ساقطة أيضًا، لأنّ نتيجتها ستكون فقط بثّ الشحن الطائفي، والذي ظهر أنّ اللبنانيين جميعًا قد تخطوه، واتفقوا على التعايش، مع الاختلافات السياسية الموجودة بينهم.
في الختام، الحرب في المنطقة تضع أوزارها، ورايات النصر تخفق من البوكمال إلى دير الزور فالموصل والقصير، وما نسمعه هو صراخ الخاسر، يلعب أوراقه الأخيرة والخطيرة والمغامِرة قبل تبلور وضع المنطقة والعالم في النظام الدولي الجديد. وإذا أراد أحدٌ اللهو والدلع، فلن تحتاج "مدنُ الملح" إلا إلى زخاتٍ من المطر، من غيوم شتوية عابرة.
*أكاديمي وباحث في الشؤون الإقليمية