تتربّص بلبنان تهديدات عديدة نتيجة الصراع السعودي – الإيراني وعلى رأسها الحصار الإقتصادي والمالي إضافة إلى قرب تطبيق العقوبات الأميركية على حزب الله. وعلى الرغم من التداعيات السلبية التي قد تنتج عن هذا الحصار، إلا أن لبنان قادر من خلال سياسة حكيمة على تخطّي هذه الأزمة.
قبل الفتح الإسلامي للأمبراطورية الفارسية، كان الفرس يُسيطرون على شرق شبه الجزيرة العربية وأخذوا من العراق عاصمة إقتصادية وسياسية للأمبراطورية الفارسية وأخذت العلاقة بين العرب والفرس منحى تبعية سياسية في مناطق نفوذ الفرس.
وأقام الفرس تحالفات مع عرب الجنوب والشمال في وجه النفوذ البيزنطي في جنوب شبه الجزيرة العربية التي كانت مركزًا تجاريًا كبيرًا ومنطقة نفوذ بيزنطي خصوصًا في اليمن. فقاموا بالتحالف مع اليهود والنسطوريين لمحاربة النفوذ البيزنطي حيث عمد ذو نواس الحميري الى حرق مسيحيي عجران.
وقام الفرس بدعم بن المنذر وولده من بعده في محاربة البيزنطيين والعرب في آن، وإستطاع المناذرة توسيع نفوذهم من اليمن صعودًا حتى شمل العراق والأردن. وتدهورت العلاقات الفارسية العربية بموت بن المُنذر وأخذ العرب يُهاجمون أطراف الأمبراطورية الفارسية في العراق حيث أدّت خسارة الفرس لمعركة ذي قار إلى إستقلال القبائل العربية في البحرين وأواسط الجزيرة العربية.
وأخذت الأمبراطورية الفارسية بالتراجع مع هزيمة الجيش الفارسي في وجه البيزنطيين في بلاد الشام ومصر (عام 628 ميلادي) ومع تعاقب عدة أشخاص على رأس الأمبراطورية من خلال الإغتيالات وكان معظمهم ضعفاء مما أدّى إلى تقسيم الامبراطورية إلى عدّة ولايات بأمرة حكّام عسكريين إقطاعيين.
بدأ الفتح الإسلامي لبلاد فارس في العام 633 م مع إحتلال أبي بكر الصديق للعراق، لكن إنشغال العرب بمحاربة البيزنطيين في الشام دفع بالفرس إلى إستعادة العراق مما دفع بالعرب إلى بدء حملة ثانية في العام 636 م حيث إستعادوا العراق بعد معركة القادسية.
وفي العام 642 م أمر الخليفة عمر بن الخطّاب بفتح بلاد فارس بالكامل حيث تمّت السيطرة عليها بالكامل بعد عامين من بدء المعركة. وأخذ معها الفرس بالتخلّي عن ديانتهم المجوسية وإعتناق الإسلام.
ويروي التاريخ أن مُعظم سكان إيران كانوا من أهلّ السنّة، إلا أن الشاه إسماعيل الصوفي أجبرهم على التشيّع وبالتالي إنتشر الشيعة في وسط إيران والسنّة على الأطراف.
من هذا المُنطلق، تتصف العلاقات السعودية – الإيرانية بالمنافسة الشرسة على خلفية عرقية (عرب – وفرس) وخلفية مذهبية (سنة – شيعة).
وأدّت الثورة الإسلامية في إيران في أواخر سبعينات القرن الماضي إلى تدهور العلاقات حيث كانت إحدى أولى المواجهات بالوكالة بينهما الحرب الإيرانية – العراقية والتي دامت ثمانية سنوات. وإنقطعت العلاقات بين الدولتين في العام 1987 كنتيجة للمواجهات الساخنة بين الحجّاج الإيرانيين والسلطات السعودية، وإزداد التدهور مع وصف الإمام الخميني القيمين على المدينة المنوّرة بالـ «مهرطقين».
وتوالت المواجهات بالوكالة بين الدولتين خلال الربيع العربي حيث أخذت المواجهة أوجها في سوريا واليمن. وآخر هذه المواجهات كانت مأساة الحج في العام 2015 وما تبعها من هجوم على السفارة السعودية في طهران في العام 2016 وإعدام الشيخ النمر في المملكة حيث تمّ قطع كل العلاقات المباشرة وغير المباشرة بين إيران من جهة والسعودية وبعض الدول الخليجية من جهة أخرى.
أين لبنان من هذا الصراع؟
لبنان وبحكم نسيج مجتمعه له إرتباطات وثيقة مع كل من المملكة العربية السعودية وإيران. وبالتالي، فإن الصراع السعودي – الإيراني كان يُترجم في لبنان في كل مرّة بأزمات سياسية وأحيانًا أمنية. وقد أدّى هذا الصراع إلى تعطيل المؤسسات الدستورية للدوّلة اللبنانية خصوصًا بعد عدوان تمّوز 2006، حيث كانت التداعيات على الإقتصاد والمالية العامّة كارثية.
وشكّل بدء الحرب السورية في العام 2011 وإسقاط حكومة الرئيس الحريري مُنعطفًا خطيرًا في الحياة السياسية اللبنانية أدّى إلى إنقسام سياسي عامودي بين مكونات المُجتمع اللبناني وإلى فراغ رئاسي دام عامين ونيّف.
وأمل اللبنانيون كثيرًا بعد التسوية التي أعادت تكوين السلطة السياسية في العام 2016 حيث أعتُبِر إخراج لبنان من المحاور الإقليمية إنجازًا، وكانت الأنظار تتجّه في المرحلة الأخيرة إلى الشق الإقتصادي بعد إقرار مشروع الموازنة وقانون الشراكة بين القطاع الخاص والعام. لكن إستقالة الرئيس الحريري أعادت لبنان إلى صلب الصراع السعودي – الإيراني.
ماذا ينتظر لبنان؟
إن إستقالة الرئيس الحريري هي إحدى جبهات المواجهة بين السعودية وإيران. ومن المُتوقّع أن تكون التداعيات على مستويين:
أولًا – سياسية إذ من الصعب على الأفرقاء السياسيين تشكيل حكومة، وبالتالي فإن الفراغ مُرشّح للإستمرار لفترة طويلة تحت طائلة تحمّل لبنان تداعيات جمّة.
ثانيًا – إقتصادية – مالية : فالمملكة العربية السعودية ومعها حلفائها (بحسب موقع Middle East Transparent) ستفرض عقوبات إقتصادية على لبنان عبر وقف الصادرات اللبنانية إلى الخليج كما ووقف تحاويل المغتربين اللبنانيين من هذه الدول إلى لبنان.
وبحسب المركز الدولي للتجارة (ITC)، بلغت قيمة الصادرات اللبنانية إلى دول التعاون الخليجي في العام 2016، 695 مليون دولار أميركي وإستيراد لبنان منها 1.3 مليار دولار أميركي.
وتبلغ قيمة تحاويل المغتربين اللبنانيين في دول التعاون الخليجي 1.942 مليار دولار أميركي (مصدر البنك الدولي 2016) أي 25.5% من إجمالي تحاويل المغتربين البالغ 7.616 مليار دولار أميركي موزّعة على النحو التالي: السعودية 1.543 مليار د.أ، الإمارات 253 مليون د.أ، الكويت 66 مليون د.أ، قطر 59 مليون د.أ والبحرين 21 مليون د.أ.
هذا يعني أنه في حال طبّقت دول الخليج هذا الحصار فإن إجمالي الخسارة على الإقتصاد اللبناني ستكون 2.637 مليار دولار أميركي. هذا الرقم لا يشمل الأضرار التي قد تنتج فرض العقوبات الأميركية على حزب الله.
أيضًا وبحسب موقع Middle East Transparent، فإن المملكة السعودية هدّدت برفع ضمانتها الدولية عن حسابات الدولة اللبنانية، وديونها مما يعني أن كلفة الإقتراض من الأسواق العالمية ستكون أعلى.
تخطّي الأزمة
إن تخطّي الأزمة يمر إلزاميًا بشق سياسي حيث يجب تشكيل حكومة تكنوقراط مؤّلفة من مُستقلين أقلّه حتى حصول الإنتخابات النيابية في أيار 2018.
على الصعيد الإقتصادي، يتوجّب على وزارة الإقتصاد والتجارة إيجاد الأسواق البديلة للأسواق الخليجية وذلك تحسبًا لحصول أي حصار إقتصادي على لبنان. وهذا يعني التواصل مع الولايات المُتحدة الأميركية، روسيا، الإتحاد الأوروبي، تركيا، مصر وغيرها من البلدان التي يُمكن للبنان تصدير بضائعه إليها.
على الصعيد المالي، لا تخوف على الليرة اللبنانية حتى مع رفع الضمانات من ناحية أن مُعظم الدين العام هو دين محلّي وأن الإحتياط من العملات الأجنبية يفوق الـ 44 مليار دولار أميركي وبالتالي يُمكن لمصرف لبنان وللمصارف التجارية تمويل عجز الدولة بإنتظار نهوض الإقتصاد.
من ناحية أخرى يتوجّب على حكومة التكنوقراط التي يتمّ تشكيلها أن تعمد إلى المضيّ قدمًا في خطة إقتصادية تسمح بإستيعاب اليد العاملة التي قد يتمّ ترحيلها من دول الخليج على أن يتمّ ضبط سوق العمل داخليًا. والجدير بالذكر أنه في حال ترحيل اللبنانيين في دول الخليج، فإن الإقتصاد اللبناني سيعوّض الخسارة الناتجة عن التحاويل برفع الإستهلاك المحلّي مما سيزيد النمو الإقتصاد بأقلّه 0.5%.
في النتيجة، لبنان قادر على تخطّي هذه الأزمة بتضامن داخلي وبوعي سياسي يسمح لحكومة تكنوقراط بالنهوض بلبنان إقتصاديًا وإجتماعيًا حيث يبقى الأمل كبيرا بأن يكون لبنان خارج نطاق أي عملية عسكرية في المنطقة.