يلاقي العظيمُ الحِقْدَ فِيْ كُلِّ أُمَّةٍ... هو أحد الثمانية الكبار الَّذِيْنَ سَاهَمُوا فِي إِطْلاقِ الحِوَارِ الإِسْلامِي-المَسِيْحِي فِي لُبْنَان مَعْ رِفَاقِهِ: الإِمَامِ المُغَيِّبِ مُوْسَى الصَّدْرِ(1)، وَالعَلاَّمَةِ الشَّهِيْدِ صُبْحِي الصَّالِح(2)، وَالأب يواكيم مبارك(3)، الدكتور حسن صعب(4)، والأديب المفكر نصري سلهب(5)، وَالمُطْرَان جُورج خُضْر(6)، والأَب فرنسوا دوبره لاتور(7).
ووَقَّعُوا بياناً في الثامن من تموز1965، يشكل نقطة البداية الفعلية للحوار الاسلامي المسيحي في لبنان لما تضمنه من تأكيد على الثوابت المشتركة في المسيحية والاسلام.
والمظلومية التاريخية التي آلمتنا كثيراً تتجسد في التالي: إن رفاق دكتورنا المرحوم يوسف أبو حلقة(1926-2001) (السبعة) والذين كانوا معه وإلى جانبه، قد أنصفهم لبنان حكومةً وشعباً بالتكريم وبالتخليد لذكراهم العطرة، إلاَّ دكتورنا المظلوم من دولته وحكومته، فلا يُذكرُ ولا يُكرَّمُ ولا تُلقى إضاءةٌ إعلامية عليه، قد يكون إنتماؤُهُ الطائفي عبئاً يُسبِّبُ في التنكر له، حالهُ حالَ عباقرةٍ علويين لم تُعاملهم كلُّ الأنظمة العربية ولو بقليلٍ مما يستحقون ثناءً...
لِذا، فإن وزراة الثقافة مع وزارة الإعلامِ مُطالبتانِ بتكريم هذا الكبير من بلادي، وكم نحنُ بحاجةٍ في هذه الظروف المقيتة التي يَمُرُّ بها لبنان إلى أنْ نمشي على خُطى المرحوم يُوسف أبي حلقة في تعاليمه العالمية التي قال عن حقيقتها: (كلُّ التعاليم تُصور الحق وتدعو إليه، أمَّا التناقض والتنافر فَحُجُب غريبة عن رُوح الدين سَدَلَها على جوهر الحق نَقْصٌ بشريٌّ ، وانحرافٌ نفسيٌّ مرضيٌّ... وهذا ما يُثْبِتُهُ منطقُ التاريخ إذا اِسْتُقْرِئَ اسْتقراءً صافياً نبيلاً).
من هو دكتورنا المظلوم؟
هُوَ الدُّكْتُوْرُ يُوْسُف يُوْسُف (مُرَكَّب)(8)عَلِيُّ أَبُو حَلَقَة، وَالدِتُهُ فَاطِمَة جَحْجَاح. وُلِدَ عَام 1926، لا نَعْرِفُ أَيْنَ؟ وَلِكَن رقم سجله 170 التبانة.
تَزَوَّجَ فِيْ سِنِّ مُتَأَخِّرَةٍ (حَوَالي 47 سنة) وَأَنْجب ثَلاثَ بَنَاتٍ تُوفِّيْت الأخيرة عِنْدَ وِلادَتِهَا.
لَكن هَذَا الزَّواج لَمْ يَدُمْ طَوِيْلاً (4 سنوات تقريباً)، إِذْ سُرْعَانَ مَا حَصَلَ الطَّلاقُ الَّذِيْ لَمْ نَعْرِفْ أَسْبَابَهُ، فكَانَ بِدَايَةَ اِنْفِصَالِ الرَّاحِلِ الكَبِيْرِ عَنْ عَائِلَتِهِ، حَيْثُ احْتَفَظَتْ طَلِيْقَتُهُ بالبِنْتَيْنِ مَعَاً، وَعَاشَ هُوَ وَحِيْدَا لِيُكْمِلَ بَاقِي حَيَاتِهِ هَكَذَا.. زَاهِدَاً. توفي عام ٢٠٠١ في مدينة طرابلس.
وَقَدْ تَرْجَمَ لَهُ أَحَدُ أَقْرِبَائِهِ عَلَى إِحْدى صفحاتِ التَّواصِل الإجْتِمَاعي تَرْجَمَةً شَابَهَتْ تَرْجَمَة نُشِرَتْ عَلَى إِحْدَى رُوزنَامَاتِ جَمْعِيَّةِ العَزَمْ وَالسَّعَادَةِ(9). تَلقَّى عُلُوْمَهُ فِيْ مَدَارِسِ طَرَابُلْس الاِبْتَدائيَّة وَالثَّانَوِيَّة.
تَابَعَ دِرَاسَتَهُ الجَامِعِيَّة حَيْثُ حَصَلَ عَلَى دُكْتُوْراة فِي الفَلْسَفَة وَاللاهُوْت وَفِقْهِ اللُغَةِ العَرَبِيَّة.
صَارَ أُسْتَاذَاً مُحَاضِرَاً فِي الفِقْهِ وَالفَلْسَفَةِ وَالآدَابِ فِي جَامِعَاتِ وَمَعَاهِد بَيْرُوت الكُبْرى.
بين الأدب والسياسة
كَانَ رَاحِلُنَا الكَبِيْرُ السياسي العلوي اللبناني الأول والوحيد الذي شارك في "الندوة اللبنانية" عن "المسيحية والاسلام في لبنان". هذه الندوة التي أسّسها ميشال أسمر "الندوة اللبنانية" سنة 1946، عام الجلاء، ليستمرّ نشاطها حتى العام 1984 عام وفاته ليلة عيد الميلاد. خلال تلك الفترة استقبلت "الندوة" 413 محاضراً من لبنان ومن دول عربية وإفريقية وأوروبية وأميركية. كما أنها نظمت 598 محاضرة، 451 منها نشرت في عشرين عدداً من مجلة "الندوة"، "محاضرات الندوة"، ليبقى حوالى الـ147 محاضرة غير منشورة حيث لا نزال نجد نصوصاً بعضها في أرشيف "الندوة اللبنانية" الداخلي. إلى هذا يجب عدم إغفال ما يفوق الستين كتاباً نُشرت في "منشورات الندوة اللبنانية" باللغات العربية والفرنسية والانكليزية لا تزال موجودة في المكتبات العامة في لبنان(10).
يومها، شدّد البيان على «تلاقي الديانتين في إيمانهما بالله الواحد وبقيامهما معاً على تعزيز قيم روحية ومبادئ خلقية مشتركة تصون كرامة الإنسان وتعلن حقه في الحياة الفضلى، وتنهض بالأرض وما عليها في محبة وسلام ووئام».
كذلك، أعلنوا «أنّهم على يقين بأنّ لبنان هو الموطن المختار لمثل هذا الحوار المسيحي الإسلامي، وبأنه حين يجدد وعيه بتعاليم هاتين الرسالتين، يسهم في تجديد طاقة الإنسان الروحية وصونها». وتعاهدوا على «تحقيق لقاء أخوي مستمر ينهلون خلاله من معين الديانتين العالميتين، وتعلم فيه كل فئة بتعاليم دينها جاهدة في تفهمها لما انطوت عليه الديانة الأخرى من عبر وعظات ونظم تقرب الإنسان من أخيه الإنسان، وعلى توسيع نطاق هذا اللقاء حتى يضم العناصر التي تبدي استعدادها للإسهام في تركيزه وتعميمه، وعلى السعي الدائم لإزالة الحواجز التي نصبتها عوالم مفتعلة يبرأ منها دين الله الحق(11).
وألقى مُحَاضَرَتَهُ بِعُنْوَان" خُطَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهً عَلَيْهِ وَآلهِ وَسَلَّم" في 17 أيار 1965، قالَ في بدايتها: "أنا أؤمنُ بِوحدةِ التعاليمِ، لأنِّي أؤْمِنُ بأنها من مصدرٍ واحدٍ هو اللهُ. وللهِ الأزلية والأبدية، وله الرحمة الذاتية. واللهُ مصدر كل تعليم، والدين مظهر الرحمة الربانية التي لا تنقطعُ، فهو إذاً خالدٌ بخلودها، أبديٌّ بأبدية الله، كما هو أزليٌّ بأزليَّتِهِ"...
تكشفُ لنا كلماتهُ المنتقاةُ بعناية فائقةٍ عمق فهمه للواقع العربي، وإيمانه الراسخ بدعوة الرسول الكريم (ص) التي قال عنها رحمه الله: "رسالة محمد رسالة عامّة ودائمة، هي رسالةُ الهُدى والنجاة بما ضمنت من أُصولٍ كانت خطوطاً كبرى لكل تفصيلٍ قامَ به عظماء العقل والمعرفة في كل عصر وفي كل مصرٍ".
هذا الوصفُ قد استمدهُ من جَدِّهِ الأكبر المكزون السنجاري (رض) بمدحه لنبي الرحمة (ص):
كُلُّ المَحاسِنِ جُزءُ حُسنِ مُحَمِّدٍ وَإِلَيهِ مَرجَمُها وَعَنهُ صُدورُها
مَدْرَسَة أَدِبِيَّة نَالَتْ احْتِرامَ مُعْظَمِ عُلَمَاءِ وَشَخْصِيَّات عَصِرْهِ. فَقَدْ كَانَ نَقَّحَ وَحَقَّقَ العَدِيْد مِنَ الكُتُبِ، مِنْهَا نَهْجَ البَلاغَة لِلْدُكتور صُبْحِي الصَّالِح، الذي قالَ فيهِ: "ولقد أعانني في التصحيح صديقٌ أعتزُّ به وأُفاخرُ بإخوتهِ، هو الأستاذ يوسف أبو حلقة الذي قرأ الكتاب كله كلمة كلمة ، فله أجزل شكري وأُوفِّر امتناني"(12).
وفي مقدمة رسالة الدكتوراه الشهيرة للدكتور أسعد علي "معرفة الله والمكزون السنجاري: "رسالة دكتوراة في الفلسفة من الجامعة اليسوعية 1972" رأيٌّ أَوَّلٌ له، فاعتبر أميرنا (رض): أحقُّ من أبي العلاء المعري بالقول: إنَّهُ فيلسوف الشعراء وشاعر الفلاسفة(13).
ورأيُّهُ هذا الذي ابتدأ به دكتورنا أسعد علي دراسته، لأكبرُ شاهدٍ على علويته العميقة، وإنتمائه الراسخ الذي حاول وللأسف كثيرٌ منا التشكيك به.
نَقَّحَ وَحَقَّقَ العَدِيْد مِنَ الكُتُبِ، مِنْهَا: النَّسَمَاتِ لِلأَدِيْبَة سَلْمَى صَايِغ(14). والأدب الصغير والأدب الكبير ورسالة الصحابة لابن المقفع في شباط 1960(15).
بَيْنَ يَدَيَّ كَوْمَةٌ مِنْ أَوْرَاقٍ: ضَخْمَةٍ وَمُتَوَسِّطَةٍ وَصَغَيْرَةٍ، وَجَدْتُهَا مُتَنَاثِرَةً وَمُتَبَعْثِرَةً فِيْ بَيُوْتَاتٍ عَلَوِيَّةٍ شَتَّى، بَيْنَ سُوْرِيَّا وَلُبْنَانَ، وَقَدْ قَضيْتُ لَيَالٍ كَثِيْرَةٍ، وأنا أتأمَّلُ هذه التُّحف الأدبية التي نحتتها يداهُ بعمق ووجعٍ. فكم وكم شعرت بما خلّفه في ثنايا هذه الحروف واستطالاتها من عشقٍ وتعب. وكم أخذني الاستغراق في تأمل عنايته بحفر حروفه إلى معايشة معاناته وساعاته، حتى خرجت بكتابٍ صغيرٍ أسميته: "غريب الصحراء" ما زالَ مخطوطاً نأمل من الله أن يساعدنا ويأخذ بيدنا كي يُبصرَ النور.
عَبَرَ الحَيَاةَ ... وَلَكِنْ: لَيْسَ كَما أَرَادِ
كَثِيْرَاً مَا يُتَغَنَّى عِنْدَنَا بِالدُّكْتُوْرِ يُوْسُفِ أَبِيْ حَلَقَة، وَكَثِيْرَاً مَا يُرْوَى لَكَ عَنْ عَبْقَرِيَّاتِهِ وَمُؤَلَّفَاتِهِ، وَكَثِيْرَاً مَا يُحَدِّثُوْنَكَ عَنْ قِصَصِهِ وَمُعَانَاتِهِ، وَكَثِيْرَاً وَكَثِيْرَاً... هُوَ المَفْخَرَةُ الأُوْلَى لِكُلِّ عَلَوِيِيِّ لُبْنَانَ قَاطِبَةً أَمَامَ جَهَابِذَةِ وَمُفَكِّرِي الطَّوَائِفِ اللُبْنَانِيَّةِ الأُخْرَى: إِنْ كَانَ الكَلامُ فَقَطْ عَنِ النُبُوْغِ وَالذَّكَاءِ، وَالعَبْقَرِيَّةِ وَالعَطَاءِ. وَهُوَ المَفْخَرَةُ الفُضْلَى لِكُلٍّ مِنَّا إِذَا أَرَادَ أَنْ يَفْتَخِرَ عَلَى صَاحِبِهِ بِصُحْبَةٍ عَرَضَتْ لَهُ(وَلَوْ صُدْفَةً) مَعِ الدُّكْتُوْرِ يُوْسُفِ أَبِيْ حَلَقَة. وَهُو رِسَالَةُ حُبٍّ مُفْعَةٌ بِالسَّلامِ: عَابِرَةٌ لِكُلِّ اِخْتِلافٍ، نَضَعُهَا فِيْ صُنْدُوْقِ بِرِيْدِ جَمِيْعِ الطَّوَائِفِ؛ لِعَلَّهَا تَلْقَى آذناً صَاغِيَةً، وَعُقُولاً وَاعِيَةً؛ فَتُقَابِلُهَا بِالمِثْلِ، فَنَبْنِيْ مَعَاً جُسُوْرَ التَّوَاصُلِ وَالإِخَاءِ، بَعْدَمَا سَادَتْ بَيْنَنَا خَنَادِقُ الحِقْدِ وَمَتَارِيْسُ العِدَاءِ. هَذَا طَبْعَاً: لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ، أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيْدٌ، وهُوَ السِّيَاسِيُّ العَلَوِيُّ اللبْنَانِيُّ الأَوَّلُ الَّذيْ اِسْتَطَاعَ أنْ يَحْجِزَ مَكَانَهُ اللائِقَ بِهِ، عَلَى جَلَسَاتِ الحِوَارِ الوَطَنِيِّ بِعَبْقَرِيَّتِهِ الفَذَّةِ وَحُضُوْرِهِ الأَخَّاذِ. كَمَا أَنَّهُ الأَدِيْبُ الأَرِيبُ، وَالنَّاقِدُ المَنْطِقي، وَالنَّاسِخُ الدَّقِيْقُ، وَالأُسْتَاذُ المُرِبِّي الَّذِيْ فَاقَتْ شُهْرَتُهُ حُدُوْدَ دَوْلَتِهِ. مُفْرَدَاً كَانَ هُوَ وَمُنْفَرِدَاً سَادَ وَقَادَ وَنَاقَشَ وَحَلَّلَ. كانَ أَشْبَهُ بِمؤَسَّسَةٍ مُتَنَقِلَةٍ بِشَخْصِهِ الكَرِيْمِ. لاأَلَيْسَ غَرَيْبَاً أَنْ نَقُوْلَ، لَمْ يَسْتَطِعِ العَلَوِيُّوْنَ فِيْ لُبْنَانَ بِخَلْقِ وَلَوْ شَخْصِيَّةٍ وَاحِدَةٍ تَحْظَى بِقُبُوْلٍ جَامِعٍ.
هَذِهِ المَزَايَا نَجِدُهَا فِيْ أَوْلِ خَمْسِيْنَ سَنَةٍ مِنْ حَيَاتِهِ. إِذْ بَدَأَ مَسَارُ عُمْرِهِ يَنْحَرِفُ نُزُوْلاً، وَعَمُوْدُ ظَهْرِهِ أَصَابَهُ اِنْحَنَاء، فَجَدَّتْ بَعْدَ الأُمُوْرِ أُمُوْرُ، وَحَلَّ التَّعْسُ وَالشَّقَاءُ بَعْدَ الهَنَاءِ وَالسُّرُوْرِ، لَتَبْدَأَ المَرْحَلَةُ الثَّانِيَةِ، هِجْرَاتٌ دَاَخِلِيَّةٌ فِي جَبْلِ مُحْسِن نَعَمْ، فِي هَذَا الجَبَلِ الصَّغِيْرِ قَرَّرَ أَنْ يَقْضِي بَقِيَّةَ حَيَاتِهِ أَوِ الأَحْرَى فُرِضَ عَلَيْهِ فِيْ هَذِهِ البُقْعَةِ الجُغْرَافِيَّةِ الصَّغِيْرَةِ قَضَى رَاحِلُنَا الكَبِيْرِ مُعَانَاتِهِ مُتَنَقِلاً بَيْنَ عَدَدٍ مِنْ بُيُوْتَاتِهِ فَقِيْرَاً رَثَّ الثِّيَابِ، يُتَصَدَّقُ عَلَيْهِ حُبَّاً فِيْهِ وَبِنِكَاتِهِ العِلْمِيَّةِ وَظَرَافَاتِهِ الأَدَبِيَّةِ. مَعْ أَنَّهُ لا يَقْبَلُ الصَّدَقَةِ المَادِيَّةِ بِالرُّغْمِ مِنْ عَوَزِهِ الشَّدِيْدِ (وَمَنْ يَسْتَعْفِفْ يَعفَّهُ اللَّهُ، وَمَنْ يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ اللَّهُ، وَمَنْ يَتَصَبَّر ْيُصَبِّرُهُ اللَّهُ). "إِيَّاكُمْ وَسُؤَالُ النَّاسِ، فَإِنَّهُ ذُلٌ فِي الدُّنْيَا وَفَقْرٌ تَعْجِلُوْنَهُ، وَحِسَابٌ طَوِيْلٌ يَوْمَ القِيَامَةِ".
وَقَدْ قَامَتْ العَائِلاتُ مَشْكُوْرَةً –عَظَّمَ اللهُ أَجْرَهَا- بِوَاجِبِ اِسْتِضَافَتِهِ، وَالتَّكَفُّلِ بِمُتَطَلَّبَاتِ مَعِيْشَتِهِ. وَلَمْ تَكُنْ لِتَبْخَلَ عَلَيْهِ قَدَرَ اِسْتِطَاعَتِهَا بِكُلِّ مَا يَتَمَنَّاهُ، لَكِنَّهُ كَانَ عَزِيْزَ النَّفْسِ أَبِيَّاً، لا يَحُوجَهُم إِلاَّ إِلَى مَا يَسُدُّ بِه رَمَقَهُ. وَتَقْلِيْبُ صَفَحَاتِهِ فِيْ دَفْتَرِ يَوْمِيَّاتِهِ مُوْجِعٌ جِدَّاً فِيْ هَذِهِ المَرْحَلَةِ. وَقَدْ يَسْتَفِزُّ كَلامِي أَقَارِبَاً يَدَّعُوْنَ نِسْبَتَهُ. فَلَيْسَ كَلامِي مُوَجَّهَاً ضِدَّهُم، بِقَدَرِ مَا هُوَ تَوْصِيْفٌ دَقِيْقٌ للوَاقِعِ لا يُمْكِنُنِيْ تَجَاوَزَهُ. وَاقِعٌ لا يُمْكِنُ وَصْفَهُ إِلاَّ عَلَى لِسَانِ شَاعِرِنَا المكزون السنجاري (رض): وَباعَدْتُ فِيْهَا الأَقْرَبِيْنَ مُقَارِبَاً عَلى حُبِّها أَهْلَ الشُعْوبِ البَعيدَةِ كَانَ فِيْهِ الغَرِيْبُ المَطْرُوْدُ مِنْ كُلِّ قَرِيْبٍ والشَّرِيْدُ قَضَى أَوَاخِرَهُ شَهِيْدَاً وَشَاهِدَاً عَلَى ظُلْمِ الأَقْرَبِيْن. يُبْدِهُونَكَ عِنْدَنَا بِما حلَّ بِهِ مِنْ مَصَائِبٍ وَمَتَاعِبٍ حَتَّى يَكَادُ القَلْبُ يَقْطُرُ دَمَاً عَلَى مَا آلَ إِلَيْهِ مَصِيْرُ هَذَا الرَّاحِلِ الكَبِيْرِ.
أَتَصُدِّقُوْنِيْ لَوْ قُلْتُ، إِنَّنِيْ أَكَادُ لا أُصَدِّقُ مَا حَلَّ بِهَذَا الأدِيْبِ الغِرِيْبِ؟!. فَلَو كَانَ لَكُلِّ مِنَا مِنْ اسْمِهِ نَصِيْبٌ لَكَانَ لِيُوْسُفِنَا اليُوْسُفِيِّ المَظْلُوْمِ الحَظَّ الأكْبَرَ. كأَنَّ يُوسُفُنَا الدُّكْتُورُ أَعَادَ لَنَا بِمَظْلُوْمِيَّتِهِ مَا حَلَّ بِسَيِّدِنَا يُوْسُفُ الجَمِيْلِ، طَبْعَاً بِاخْتِلافِ المَقَامِيْنِ وَالتَّارِيْخَيْنِ، فالنَّبِيُّ الصِّدِّيْقُ أَلْقُتْهُ كَوَاكِبُهُ السَّاجِدَةُ لَهُ، فِيْ غَيَابِ الجُبِّ وَقَالُوا: أَكَلَهُ الذِّئْبُ.
وَيُوْسُفُنَا المَقْهُوْرِ أَلْقَتْهُ عَائِلَتُه كُلُّ عَائِلَته فِيْ غَيَاهِبِ عَجْزِ المَشِيْبِ لِتَنْهَشَ كَرَامَتَهُ ذِئِابٌ وِكِلابٌ.
وَسَيِّدُنَا (عَلَيْهِ السَّلامُ) بَاعَهُ أُخْوَته فِيْ سُوْقِ العَبِيْدِ بِثَمَنٍ بَخْسٍ، وَيُوْسُفُنَا بَاعَهُ الجَمِيْعُ ـ كُلُّ الجَمِيْعِـ بِلا ثَمَنٍ ذُكِرَ وَلَوْ بِدَرَاهِمَ مَعْدُوْدَةٍ. وَمَاتَ يُوْسُفُنَا، وَمَاتَتْ مَعَهُ أَسْرَارٌ كَثِيْرَةٌ وضَاعَتْ َكُنُوْزٌ جَلِيْلَةٌ.
اِحْتَرَاقُ بَيْتِهِ وَمَكَتْبَتِهِ هَكذا كَانَ يُحَدِّثُ بِأَلَمٍ وَوَجَعٍ كُلَّ مَنْ يُجَالِسُهُ وَيُصَادِقُهُ، عَنِ اِحْتِرَاقِ بَيْتَهِ البَيْرُوْتِيِّ الوَاقِعِ عَلَى خُطُوْطِ تَمَاسٍ بَيْنِ الشَّرْقِيَّةِ وَالغَرْبِيَّةِ، وَعَنْ ذَهَابِ ثَرْوَتِهِ كُلِّ ثَرْوَتِهِ فِيْهَا... وَأَيُّ ثَرْوَةٍ هَذِهِ الَّتِيْ نَتَكَلَّمُ عَنْهَا!. ثَرْوَةٌ أَفْنَى شَبَابَهُ وَمَالَهُ فِيْ تَحْصِيْلِهَا.
كَانَ يَرْوي حَجْمَ هَذَهِ المَكْتَبَةِ الضَّخْمَةِ، وَاِشْغَالَهَا مُعْظَمِ مَنْزِلِهِ، لِدَرَجَةٍ أَنَّكَ لا تَسْتَطِيْعُ التَّجَوُّلَ فِي أَرْجَائِهِ إِلاّ بِشَكْلٍ جَانِبِي كَي يُتَاحَ لَكَ المُرُوْرَ. وَمِنَ القِصَصِ المُبْكِيَةِ المُضْحَكَةِ الَّتِي أَجْرَاَهَا (رَحِمَهُ اللهُ) عَلَى لِسَانِ كُلِّ مَنْ عَرِفَهُ أَنَّهُ يَوْمَاً أَرَادَ أَنْ يَشتري (مَنْقُوْشَة زَعْتَر) فَلَفَّهَا لَهُ الفَرَّانُ بِوَرَقَةٍ كَانَتْ بِخَطِّ يَدِهِ. وَمَعْلُوْمَةٌ أَيْضَاً بَثَّهَا فِي أَرْجَاءِ مُعَاشِرِيْهِ ضَيَاعُ عَمَلٍ جَبَّارٍ لَهُ عَنْ اِبْنِ رُشْدٍ قَارَبَ الأَلْفَ صَفْحَةٍ. وَذَهَبَتْ كُتُبُهُ، إِمَّا نَهْبَاً أَوْ حَرْقَاً. وَتَبَعْثَرَتْ أَشْلاؤُهُ فِيْ أَرْجَاءِ هَذَا الكَوْنِ. فَعَطَّرِتْ بِحِبْرَهَا كُلَّ يَدٍ لامَسَتَهَا.
دُخُوْلُهُ المَشْفَى وَوَفَاتِهِ وَجَنَازَتِهِ
كَانَ يَمشي فِيْ سُوْقِ القَمْحِ فِيْ التَّبَانَةِ -حَيْثُ قَضَى عَلَى مَدْخَلِهِ عِنْدِ صَدِيْقٍ لَهُ سِنِيْنَ وَسِنِيْن- فَانِزَلَقَتْ رجله وَوَقَعَ، فَنُقِلَ إِلَى المَشْفَى الإِسلامِي فِيْ طَرَابُلسِ، حَيْثُ بَقِيَ بِهَا قَرَابَة العَشْرَةِ أَيَّامٍ، ثُمَّ قَضَى نَحْبَهُ. فَنُقِلَ إِلَى البَيْتِ الذَّي آوَاهُ فِيْ آخِر ِسَنَةٍ مِنْ عُمْرِهِ، فِيْ آخَرِ جَبَلِ مُحْسنٍ، حَيْثُ جَرَى تَغْسِيْلَهُ وَتَكْفِيْنَهُ. ثُمَّ صُلِّيَ عَلَيْهِ عُقْبَ صَلاةِ الجُمُعُةِ، وَدُفِنَ فِيْ مَقْبَرًةِ الزَّهْرَاءِ. كُلُّ هَذَا بِغِيَابِ أَهْلِهِ وَذَوَيْهِ. وَلَمْ يُشَيِّعْهُ وَيْمَشِ وَرَاءَهُ سِوَى ثلاثَيْنَ شَخْصَاً فِيْ أَكْبِرِ حُسْبَانٍ.
حَتَّى إِذَا ما اِنْقَضَتْ جَنَازَتُهُ سَارُعُوا إِلَى ذَلِكَ المَنْزِلِ الأَخْيِرِ لِيُطَالِبُوا بِكُتِبِهِ وَمَا أَبْقَاهُ خلفه مِنْ مُذَكِّرَاتٍ خَافُوا عَلَيْهَا، لَيْسَ ضَنَّا بِهَا، وَإِنَّمَا خِشْيَةً مِنْ فَضِيْحَةٍ قَدْ تَكُوْنُ لَعْنَةً تُطَارِد مَنْ مَارسُوا عَلَيْهِ أَقْسَى أَسَالِيْبِ الطَّرْدِ وَالنَّبْذِ...
فَهَذِهِ سِيْرَةُ الدُّكْتُوْرِ أَبِيْ حَلَقَة عِنْدنا بَيْنَ حَالَتَيْن: حَالَةٍ مِنَ التَّبَرَّيِ، وَحَالَةٍ مِنَ التَّبَنِّي. وَبَيْنَ الحَالَتَيْنِ ضَاعَتْ أَيَّامُ هَذَا الغَرِيْبِ. وَضَاعَتْ مَعَهُ حَقَائِقَ جَمَّةٍ، كَانَتْ لَوْ تَوَافَرَتْ بِالفِعْلِ مُعْطَيَّاتٌ جدية تُدَرَّسُ كَتَجْرِبَةٍ رَائِدَةٍ فِيْ بَنَاءِ الإِنْسَانِ الفَرْدِ، وَبَنَاءِ المَجْتَمَعِ وَالوَطَنِ.
فَتَسَبَّبَ ضَيَاعُهَا تَشَتُّتَ أَفْكَارَ كُلِّ بَاحِثٍ عَنِ الحَقِيْقَةِ، عَلَى خُطَى الدُّكْتُوْرِ يُوْسُفِ أَبِيْ حَلَقَة.
(1)الإمام موسى الصدر ولد عام1928، فُقد اثناء زيارته لليبيا عام 1978.
(2)رئيس المجلس الإسلامي الشرعي الأعلى، ولد سنة 1925 واغتيل في 7 تشرين الأول 1986 في ساقية الجنزير في بيروت. حَائِز على دكتوراه في علوم العربية، من مؤلفاته (مباحث في علوم علوم القرآن) و(مباحث في علوم علوم الحديث) و(النظم الإسلامية وتطورها) و(الأمة ثم الدولة) و(ردّ الإسلام على تحدّيات عصرنا) بالفرنسيّة و(منهل الواردين شرح رياض الصالحين) و(المؤسّسات الإسلاميّة تكوّنها وتطوّرها) و(الإسلام والمجتمع العصري) و(فلسفة الفكر الديني بين الإسلام والمسيحيّة) و(معالم الشريعة الإسلاميّة) وغيرها ؛ وحقّق (أحكام أهل الذمّة لابن قيّم الجوزيّة)، وانكبّ على إخراج (المعجم العربي) و(المعجم الفرنسي) مع الدكتور سهيل إدريس.
(3)يواكيم مبارك (1924-1995) علامة ومفكر لبناني تخصص بالعلوم الإسلامية والعربية. بُعَيد سيامته كاهناً سنة 1948، استقر مبارك في فرنسا حيث كرّس حياته ومجمل أعماله للحوار الإسلامي-المسيحي، للدفاع عن القضايا العربية خاصة منها الفلسطينية واللبنانية، لوحدة الكنائس وأخيراً لإعادة اكتشاف الإرث الأنطاكي للكنيسة المارونية.
(4)الدكتور حسن صعب( 1922- 1990): هو مستشار لبنان الثقافي في أميركا الشمالية استاذ محاضر سابقا في علم السياسة في الجامعة اللبنانية وجامعة بيروت الاميركية، ومن مؤلفاته :الفيدرالية العربية في الإمبراطورية العثمانية، 1958. المدرسة العقلانية في السياسة اللبنانية (1966.الصهيونية والعنصرية، 1968. مقدمة لدراسة علم السياسة.
(5)نصري سلهب(1921-2007) الكاتب والمحافظ والسفير نصري سلهب المتوفي في باريس، من مؤلفاته: (لقاء المسيحية والاسلام) (1970)، و(في خطى محمد ويليه في خطى الإمام علي)(1970).
(6)قُلِّدَ المطران جورج خضر (31/1/ 2017) من رئيس الجمهورية اللبنانية العماد ميشال عون وبحضور البطريرك الارثوذكسي يوحنا العاشر "وسام الأرز الوطني من رتبة ضابط أكبر".
(7)الأب فرنسوا دوبره لاتور(1900-1977): ولد في الرُّون في فرنسا، راهب موسوعي يسوعي، كان دكتور في العلوم وفي الطب وبروفيسور في جامعة القديس يوسف.
(8)حسب السجلات، وأظنها مصحّفة.
(9)بتاريخ أيار، جمادى الأولى ـ جمادى الآخرة 2011/ 1432هـ.
(10)أمين الياس: جريدة النهار، 25 كانون الثاني 2014.
(11)الإمام والمطران: نقاط لقاء كثيرة: جريدة الأخبار، العدد ٢٧٧٤ الخميس ٢٥ كانون الأول ٢٠١٥.
(12)الدكتور صبحي الصالح: نهج البلاغة، دار الكتاب العربي، ط4/2004، ص 28.
(13)معرفة الله والمكزون السنجاري: دار السؤال للنشر، مج2/ ص7، الطبعة الخامسة معدلة 1996.
(14)الدُّكتورة سلمى صايغ: من مواليد بيروت-لبنان 1889–1953 هاجرت الى البرازيل عام 1939 فأقامت فيها 8 سنوات حيث انضمت الى "العصبة الأندلسية. من مؤلفاتها: نسمات 1923، صور وذكريات، اعمال الرحمة، نواحي الخير في لبنان بالإتفاق مع اليونيسكو.
(15)منشورات دار البيان، مؤسسة الزين للطباعة والنشر: بيروت لبنان.