... وأمّا الدمعُ فبدا أقوى من كلّ ممجوجاتِه و”ممجوجاتِ” عشّاق تحليل الجسد واستقاء المؤشّرات من غياب الساعة الذكية على مرأى من المحاوِرة الذكيّة. وفّر الرئيس سعد الحريري على محللي الجسد كلّ هذا العناء، منحهم دمعةً وغصّة. قال ما لن يتمكنوا من قوله لو غرفوا من حركة رموشه أرطالًا ولو قرؤوا في حركة شفتيه خلافَ ما يتفوّه به، ولو استنبطوا من ارتخاء لحيته انكسارًا وانهزاميّة.
قال الرجل الكثير وما قال شيئًا. هي إطلالةُ تعميق الجراح له والقطف والتسويغ للإعلامية. المشكلة التي لم يعِها سعد الحريري أو ربما كان على بيّنةٍ منها وتجاهلها أنّ أكثر من 4 ملايين مواطن داخل الأراضي اللبنانيّة فقط كانوا يشاهدونه ويرفضون أن يصدّقوا. المشكلة أن هؤلاء مهما فعل رئيس الحكومة، الذي ما ارتقت كلمة “مستقيل” الى مستوى استحقاق حجزها مكانةً في الإحصاءات النصيّة، لا يرون فيه سوى شخصٍ هزيل واهنٍ جلّ ما يحتاجُه منهم في هذه المرحلة المحبّة والتعاطف.
لم يطلب سعد الحريري الواعد بالعودة القريبة من الناس أن يصدّقوه. هو لم يقدّم لهم مادّة تجرّهم الى حقل التصديق أصلًا. تهرب بولا يعقوبيان من “التعليب الممُنهَج” فيجذبُها هو إليه من جديد. تتحرّر أكثر، تحشره في زاوية “الصحوة” المفاجئة فينفذ الى حكايا الاغتيال والتضحية من أجل الوطن. لم تسقط تعابير الموت والاغتيال من السياقيّة الحريريّة. هو اللاوعي الجماعي يستنهضه الرجل في استعادة ملاذيّة لمشهدية الاغتيال الجسدي الذي ألمّ بوالده الشهيد رفيق الحريري. رغم أن الشيخ سعد بدا شديد التسلُّح بأجوبةٍ تمنح رئيس البلاد حقّه الدستوري، ولا تكسرُ الجرّة نهائيًا مع حزب الله الشريك، ولا تخرج في الوقت عينه عن “المُسلّمات والخطوط السعودية
الحُمر”، بيد أنّ البنوّة التي اعترف بها للرئيس عون لم تمنحه مزيدًا من الأسلحة الخارجية في وجه تساؤلات الناس.
لا حاجة الى الخوض تعمُّقًا في السياق السياسي لكلام الرجل ركونًا الى مسلّمة أنه لم يقدّم جديدًا عن بيان الاستقالة ولم يشفِ غليلًا ما زال معشّشًا في نفوس منذ ذلك السبت المُرهق. وكي ننصفه لم يكن منتظرًا منه أن يقول أكثر من ذلك، لا بل ربّما “شطح” (ركونًا الى الهوامش الممنوحة له في مقابلة يجريها في منزله على أرض المملكة). جلّ ما أراد الرئيس “المستقيل” (في نظره وحده) في ساعتين يمكن اختصارُه في أسطر: عودةٌ جسدية غير محددة زمنيًا؛ عودة سياسية مشروطة بالنأي بالنفس أي بمستحيلٍ رابع عند العرب إذ قد يظهر الغول ومعه العنقاء ومعهما الخلّ الوفي قبل أن يختفي سلاح حزب الله؛ احترامٌ لرئيس الجمهورية ودستورية خطواته؛ حرصٌ على “تبرئة” ذمّة السعودية من كلّ ما حدث ويحدث وقد يحدث، مع الأخذ على عاتقه منع أيّ حربٍ على لبنان؛ والأهمّ اعترافُه بأن هناك أمورًا أدّت الى استقالته لا يمكنه الإفصاح عنها.
في الظاهر، لا محصّلة سياسية بارزة سوى أن الرجل يطالب رئيس الجمهورية صراحةً بتعديل اتفاق التسوية، لا من خلال هزّ كرسيّه الأول، بل على مستوى الحكومة من خلال إعادة خلط أوراق يصل سقف السعودية فيها (عبثًا) الى إقصاء حزب الله من الحكومة ثمّ ينخفض الى “هزّة عصا” سياسية-اقتصادية، قبل أن تمنح الرئيس الحريري أسبابًا تخفيفيّة كفيلة بتوفير عودته الموقّتة لإرساء صيغةٍ جديدة في الحياة التنفيذيّة اللبنانية عنوانُها الفضفاض: النأي بالنفس، أمّا أفق تحقيقها فمفتوحٌ بعلمٍ ورغبةٍ سعوديَّين لا بل بما يشبه التراجع السعودي المقنّع بعد سياسة “الاحتواء” الذكية من الرئاسة والقادة والشعب.
أما أيُّ حديثٍ عن محصلةٍ انطباعيّة أخلاقيّة وطنية، فيمنح راية النصر للمحاوِرة على حساب المُحاوَر. أقنعت بولا يعقوبيان قدر المستطاع وما عاضدها الحريري في ذلك. المشكلة أن “التعليب الفكري المُمنهَج” بدا أقوى منه ومنها ومنّا... حلا للقوم
المنتظرين أن يصدّقوا من كلّ حديثه عبارةً واحدة متصالحة مع الواقع: ولايتي لم يهدّدني، أما الباقي فقالته دمعتُه ودموعُنا نحن الذين استعصى علينا التصديق... بفضله هو! خائن دمعه، خائنةٌ كلماتُه، خائنةٌ ملامحُه. خائنٌ هو... ومع ذلك أحبّ الشعبُ خيانتَه ويريده أن يعود!