فتحت المقابلة التلفزيونية الأخيرة لرئيس الحكومة سعد الحريري الباب أمام جولة واسعة من التساؤلات، حول إحتمال أن تكون السعودية قررت التراجع عن حملة التصعيد التي أطلقتها على الساحة اللبنانية، لا سيما بعد أن جاءت مواقفه بسقف أدنى من تلك التي خرج بها في بيان الإستقالة.
من حيث المبدأ، نجحت الدوائر المحلية المعنيّة في إمتصاص صدمة الإستقالة والحد من تداعياتها بشكل كبير، لا سيما بعد أن قرر رئيس الجمهورية العماد ميشال عون، بالتضامن مع رئيس المجلس النيابي نبيه بري، التريّث في البتّ بها إلى حين عودة الحريري إلى البلاد، لفهم الأسباب الحقيقية التي دفعته إلى الإعلان عن الإستقالة منه شخصياً، بالتزامن مع تضامن واسع مع هذا الموقف من جانب العديد من القوى الدولية الفاعلة، لكن ماذا بعد؟.
من وجهة نظر مصادر سياسية مطلعة، لا يمكن اليوم الجزم بأن الرياض قررت التراجع عن مواقفها السابقة، خصوصاً أن ما عبّرت عنه على المستوى اللبناني يأتي في إطار نهج كامل قررت إعتماده في العلاقة مع الجمهورية الإسلامية في إيران، لكنها وجدت مقاومة شرسة من بيروت دفعتها للتراجع بعض الشيء، لا سيما بعد أن تحوّلت القضية من البحث في أسباب الإستقالة، التي أرادت أن تكون تحت عنوان السيطرة الإيرانيّة على القرار اللبناني، إلى إعتراض على إحتجار حريّة رئيس حكومة دولة ذات سيادة.
إنطلاقاً من ذلك، تقرأ هذه المصادر، عبر "النشرة"، دعوة الرياض رئيس الجمهورية إلى إرسال موفد رئيسي، وزير الخارجية والمغتربين جبران باسيل، إلى المملكة للإجتماع بالحريري أولاً، ومن ثم المقابلة التلفزيونية التي دُبِّرت على عجل، وصولاً إلى إطلاق رئيس الحكومة مواقف تفتح الباب أمام تسوية مقبولة عبر تأكيده بأنه عائد قريباً إلى بيروت للحوار مع الرئيس عون، لكنها تشدد على أن هذا لا يعني إنهاء الأزمة التي بدأت منذ الإعلان عن الإستقالة الغامضة.
وتلفت هذه المصادر إلى أن القيادة السعودية تدرك جيداً أن تداعيات التراجع اليوم ستكون كبيرة جداً على مستوى نفوذها في لبنان، خصوصاً أنه سيُفسر خسارة لها في معركة أرادت لها أن تكون مفتوحة مع ما تعتبره أحد أبرز أذرع طهران العسكرية على مستوى منطقة الشرق الأوسط، بينما هي تحمل شعار "الحزم" في تعاملها مع كل ما يتعلق بالسياسة الإيرانية الخارجية، كما أنها لن تكون قادرة في المستقبل القريب على لملمة هذه الخسارة، بعد أن غامر بعض حلفائها في المشاركة بالحملة بعيداً عن الإجماع الوطني حول موقف رئيس الجمهورية منها، وهو ما سينعكس أيضاً على حلفائها في الساحات الأخرى التي قد تقرر تحريكها.
على هذا الصعيد، ترى المصادر نفسها أن التوجّه السعودي الحالي سيكون نحو العمل على تأكيد حريّة رئيس الحكومة في قرار الإستقالة، عبر السماح له بالعودة إلى لبنان لتقديمها رسمياً إلى رئيس الجمهورية، ما يعني تحقيق أمرين مهمين بالنسبة لها: الأول تحويلها إلى أمر واقع ينبغي التعامل معه لبنانياً، والثاني نفي ما يتردد عن إحتجاز حرية الحريري في المملكة، ما يعني إعادة عقارب الساعة إلى يوم الإعلان عن الإستقالة، ومن ثم دفع تيار "المستقبل" إلى رفع سقف مطالبه في مفاوضات تشكيل الحكومة المقبلة، حيث المطلوب تعديل شروط التسوية القائمة منذ نحو عام.
بالنسبة إلى هذه المصادر، هذا التوجه ظهر واضحاً من خلال المواقف أو المطالب السعودية التي أطلقها الحريري مؤخراً، وتؤكد بأن الأزمة الفعليّة ستبدأ بعد عودته إلى بيروت لتأكيد إستقالته، حيث تشدد على أن الرياض قررت فعلياً مراجعة الخطوة التي قامت بها بالشكل لا في المضمون، وبالتالي، من وجهة نظر المملكة، لا يمكن العودة إلى ما قبل الإعلان عن الإستقالة قبل تحقيق أهدافها، خصوصاً على مستوى التوازن في النفوذ والسلطة، لكنها تسأل: "هل تنجح في ذلك أم تتراجع بعد عنه لاحقاً"؟.
في المحصلة، لا يمكن الركون إلى مواقف الحريري للقول أن المملكة قررت التراجع لبنانياً، بل قد تكون تحضّر لما هو أكبر في المرحلة المقبلة، خصوصاً في ظل المؤشرات عن رغبتها في نقل المعركة إلى أروقة الجامعة العربية.