في بيانها الثالث بعد الحوار التلفزيوني للرئيس سعد الحريري اكتفت بالاختصار المبالغ به، بعد بيانين أصدرتهما كتلة نواب المستقبل بدت فيهما فاقدة للتوازن، بعدما استبدلت الأولوية التي رفعها البيان الأول بالدعوة لعودة رئيس الحكومة سعد الحريري إلى لبنان، ووضعه في دائرة الحفاظ على كرامتها واحترام التوازن الوطني، بالاكتفاء بتجديد الولاء للرئيس الحريري، من دون التحدّث عن أولوية، وأضافت ما كانت قد غيّبته عن خطابها في البيان الأول، من لغة عدائية تجاه حزب الله ومن ولاء للسعودية وتهجّم على إيران، بعدما كانت قد كتفت في البيان الأول بلغة تأكيد العلاقات اللبنانية السعودية، فثمة شيء ما حدث بين البيانين فرض هذا التبدل، وثمة ما حدث بعدهما فرض الاختصار لحدود الصمت الذي يبدو قد صار من ذهب بالاكتفاء بالترحيب بعودة الحريري.
متابعة تغريدات وزير الدولة السعودي ثامر السبهان تعطي الجواب. فمضمون البيان الثاني في مخاطبة الشريك اللبناني المختلف مع تيار المستقبل سواء في حزب الله وحركة أمل أو في التيار الوطني الحر وخصوصاً رئاسة الجمهورية، هو استنساخ للغة السبهان التهجمية والتي تتجاهل القضية الرئيسية التي أثارتها قضية الاستقالة، وهي وضع الرئيس الحريري المحتجز في السعودية، وتدعو للتعامل مع مضمون بيان الاستقالة الذي يستهدف التصويب على حزب الله وإيران، ويغيّب الدعوة لعودة الحريري لحساب حديث إنشائي عن مكانته.
الانضباط بخطاب السبهان من جانب كتلة نواب المستقبل لا يعني أن القناعات داخل الكتلة قد تغيّرت، أو أن توازنات المواقف بين مكونات الكتلة قد تغيّرت، فلا وقائع جديدة ظهرت تطمئن لمصير الرئيس الحريري، ولا المزاج الشعبي في شارع المستقبل توّجه همه نحو العدائية تجاه حزب الله ورئيس الجمهورية، بقدر انشغاله بالتساؤل عن مصير زعيمه، فالانفصام بين بيان الكتلة والشارع، من جهة وتماسك الكتلة حول تبدّل خطابها من جهة أخرى، يدلان على أن ما جرى يقع في السياسة على خط علاقة الكتلة برئيس الحكومة وعلاقتهما معاً بالسعودية، أي بارتباط بيانات ومواقف الكتلة بالشروط التي تصنع وضع الحريري في السعودية، فكلما بدت الكتلة حريرية زادت ظروف الحريري سوءاً وصعوبة وتأخّرت عودته، وكلما بدت الكتلة سعودية أكثر صار وضع الحريري أقلّ سوءاً وصارت عودته أقرب، أو على الأقل تبدو هذه هي الرسالة السعودية التي وصلت للكتلة مباشرة وبلسان الحريري أيضاً، ومضمونها، إذا كنتم تريدون الحريري بينكم أطيعوا السبهان.
اللاتوازن في بيانات كتلة المستقبل زاد ظهوراً بتهرّب الكتلة التي تنتقد التركيز على ظروف الاستقالة ووصفها بذرف الدموع، ودعوتها لتغيير السياسات، قاصدة حزب الله، ومحاولة تصوير التغيير المنشود في سياسة حزب الله هو التعبير عن التضامن مع الرئيس الحريري. كل ذلك طرح مجموعة أسئلة، أهمها هو البعد الإجرائي الذي تراجع بيان الكتلة الثاني عن تبنيه، باعتباره الأولوية، وهو عودة الحريري، وهذا حاضر في مواقف الآخرين. فماذا عساه يكون البديل الإجرائي الذي كان لدى الكتلة لو لم يتغيّر وضع الحريري ويصير عائداً وقريباً من حريته، طالما أن الكتلة كانت تعلم ويعلم سواها، أن الدعوة لتغيير السياسات هي عمل سجالي وتحريضي، وليست دعوة إجرائية، فليس وارداً لدى حزب الله أن يغيّر سياسته، لأن السعودية طلبت منه التغيير أو لأنها خطفت رئيس الحكومة أو لأن كتلة المستقبل تدعوه لذلك. وهذا طبيعي، ولو سلمنا بحق كتلة المستقبل باستعمال منبر غياب الحريري واستقالته لتمرير رسائلها السياسية، لكن ذلك لم يكن يعفيها في مسألة الاستقالة من الاختيار بين خطوتين إجرائيتين لا ثالث لهما، هما الدعوة لاعتبار الاستقالة غير قائمة واعتبار الأولوية لعودة الحريري، أو اعتبار الاستقالة شرعية ودستورية والدعوة للتعامل معها ببدء الاستشارات النيابية لتسمية بديل للحريري. والآخرون قالوا خيارهم وبقي خيار الكتلة غامضاً مبهماً حتى ظهوره التلفزيوني وما ترتّب عليه. وكان يوحي بعد التخلي عن اعتبار الأولوية لعودة الحريري باحتمال بلوغ لحظة الدعوة لقبول الاستقالة وبدء المشاروات لتسمية بديل للحريري. وهذا هو موقف السبهان عملياً.
الذي أحبط خطة السبهان واختراقها لكتلة المستقبل هو ما كان يجري خارجها، بعزم وتصميم وطنيين يقودهما رئيس الجمهورية ويسانده رئيس مجلس النواب وحزب الله، باعتبار معركة استعادة الحريري معركة وطنية تعلو على الخصومات الصغيرة والحسابات المحلية والفئوية.
لو لم ينجح اللبنانيون بفرض إرادتهم وتحريك الوضع الدولي وصولاً لمناخ فضائحي يُحيط بالسعودية، لما كان ظهور الحريري ووعده بالعودة.
ليس لكتلة المستقبل ولا لحلفائها الذين استعجلوا التخلّص منه بالدعوة لقبول الاستقالة، فضل في التغيير الذي أفضى لتمهيد طريق العودة أمام الحريري، بل لشارعه وخصومه الشركاء في الحكم الدور الأصل في تحقيق هذا الانفراج.
بل لقد استغلّ بعض الكتلة بالتنسيق مع السعودية ما أسموه إراحة السعودية ببيانات الكتلة ليرتاح الحريري.
هل كانت هناك صفقة مسبقة أو لاحقة رتبها السبهان مع السنيورة، هذا هو مضمونها، وكان يجري تسويقها في عائلة الحريري وتيار المستقبل تدريجاً، وجرى طرح اسم بهاء الحريري في التداول تمويهاً؟
سؤال ينتظر الأيام المقبلة وما سيفعله الحريري بعد عودته وقد صار بين يديه كشف حساب للحلفاء والأصدقاء والخصوم والشركاء.
ربما لا يقول الحريري شيئا بعد العودة حفاظا على أمنه وأمن عائلته لكن الإنتخابات النيابية ستحمل ربما بعض الأجوبة .