لا يشكّ أحد أنّ رئيس الحكومة سعد الحريري، منذ عودته إلى لبنان وإبرامه التسوية الرئاسية التي أفضت لانتخاب العماد ميشال عون رئيسًا للجمهورية، لعب دورًا جوهريًا ومثمرًا في تصويب البوصلة داخل كتلة "المستقبل"، حيث وحّد موقفها الرسمي، وأنهى ظاهرة ما كان يُعرَف بـ"صراع الأجنحة"، والذي تخطّى كلّ حدود المنطق في مرحلةٍ من المراحل، الأمر الذي أدّى لاعتكاف عددٍ من نواب الكتلة وغيابهم عن السمع.
إلا أنّ المراقب لمسار الأمور في الأيام الماضية منذ استقالة الرجل المفاجئة من الحكومة، والتي لم يكن أحدٌ في الكتلة أو خارجها في جوّها، إضافة إلى الغموض الذي أحاط بوضعه داخل السعودية، لا بدّ أن يلاحظ عودة زمن "الأجنحة" إلى السيطرة على الكتلة وأجوائها. ولا يقتصر الأمر على إصدارها بيانين "متناقضين" في أسبوع واحد، ولا على عودة النواب "المعتكفين" إلى صدارة المشهد، بل يمتدّ إلى "الضياع" الذي تشهده أروقة الكتلة، والذي دفعها في الساعات الأخيرة إلى "التبرؤ" من أيّ مواقف غير صادرة عنها رسميًا...
فريقان في "المستقبل"
لم يعد الانقسام الذي أفرزته استقالة الحريري داخل كتلة "المستقبل" يخفى على أحد، وقد "فضحه" بشكلٍ لا لبس فيه البيان الذي صدر عن التيّار "الأزرق"، ومفاده أنّ الموقف الرسمي للتيار يصدر عن التيار أو عن كتلة المستقبل، وأن أيّ موقف آخر هو رأي شخصي، وهو ما بدا وكأنّه "براءة ذمّة" قدّمها "المستقبل" من أيّ مواقف لا تصدر بشكلٍ رسميّ عن الكتلة، خصوصًا أنّ بعضها أتى متناقضًا بالشكل والمضمون مع مواقف رئيس الحكومة نفسه.
وتشير معلوماتٌ متقاطعة في هذا الصدد إلى أنّ هذا البيان صدر على خلفية تصريحات النائبين أحمد فتفت وعقاب صقر على وجه الخصوص، خصوصًا لجهة تصويبهما المباشر وغير المباشر على رئيس الجمهورية العماد ميشال عون ووزير الخارجية جبران باسيل، بما يناقض اتجاه الحريري، الذي دافع عن علاقته برئيس الجمهورية، التي أكّد حرصه على تمتينها في المرحلة المقبلة. ولعلّ المفارقة التي يجدر التوقف عندها على هذا الصعيد أنّ النائبين صقر وفتفت، مع الاختلاف فيما بينهما خصوصًا لجهة درجة قربهما من الحريري وتعبيرهما عن سياسته، هما من المجموعة التي غُيّبت عن المشهد خلال المرحلة الماضية، ما يطرح الكثير من علامات الاستفهام عن سبب عودتهما وغيرهما إلى المشهد العام في هذه المرحلة بالتحديد.
في مطلق الأحوال، يمكن القول إنّ هناك فريقين يتصارعان داخل الكتلة "الزرقاء" اليوم، ويقارب كلّ منهما الأزمة المستجدّة من منظور "مناقضٍ" شكلاً ومضمونًا للآخر، وهو ما يترجم بشكلٍ فاقع من خلال التصريحات والمواقف التي تصدر هنا وهناك. ففي حين يدعو فريقٌ وازنٌ داخل الكتلة للذهاب بعيدًا في التصعيد بوجه "حزب الله" وإيران انسجامًا مع بيان استقالة الحريري، متبنيًا كلّ حرفٍ ورد فيه، رغم إقراره بأنّ الخطوة فاجأته في الشكل والمضمون، وقبل ذلك في التوقيت، فإنّ فريقاً آخر يفضّل التماهي مع رئيسي الجمهورية والمجلس النيابي ميشال عون ونبيه بري بانتظار جلاء الأمور أكثر، ويعتبر أنّ المرحلة لا تتطلّب رفع السقف، بل التروّي والصبر، خصوصًا في ظلّ شبه إجماع على أنّ ما يحصل مع الحريري ليس عاديًا، وإن جاهرت الكتلة بخلاف ذلك.
ولا شكّ أنّ التناقض الذي ظهر بين بياني الكتلة الأسبوع الماضي، وفي غضون أقلّ من 48 ساعة، يعكس هذا الصراع بشكلٍ أو بآخر، فبعد أن طالبت الكتلة بعودة الحريري كبندٍ وحيدٍ في بيانها الأول، ما فُهِم وكأنّه تصويبٌ على السعودية، عادت في بيانٍ ثانٍ لتضع العودة كبندٍ ثانوي تسبقه إدانة الحملات على السعودية وتبنّي سياستها الخارجية إزاء إيران، وهو ما قيل أنّه حصل نتيجة ضغوطاتٍ تعرّضت لها الكتلة، ليأتي موقفها منسجمًا بشكلٍ أو بآخر مع المواقف التي صدرت عن الحريري في إطلالته التلفزيونية الأخيرة.
للضياع أسبابه
عمومًا، وبغضّ النظر عن ماهية هذا الصراع، والطموحات الشخصية لكلّ من "الجناحين" الواضحين داخل الكتلة "الزرقاء"، والتي لا مبالغة في القول أنّها تكاد ترقى لدى البعض لمستوى "وراثة" الحريري، وهو حيّ، في قيادة "التيار" ورئاسة الحكومة، فإنّ الأكيد أنّ أحداً لا يحسد كتلة "المستقبل" على الموقف المُحرِج الذي وُضِعت فيه، والذي ترجِم الأسبوع الماضي بمواقف متناقضة عن شخصيات محورية فيها بين صدمة اللحظة الأولى للأزمة والمراحل التالية، وبصدور بيانين متناقضين عنها في ظرف يومين.
وإذا كانت "الفوضى" الحاصلة في "التيار" تعيد إلى الأذهان "الفوضى" التي أحدثتها "غربة" الحريري في السابق أيضًا، حين أصبح كلّ نائب في الكتلة "يغرّد" في سربه الخاص، ما يعني أنّ غياب رئيس التيّار ينعكس سلبًا على الحالة التنظيمية للتيّار بصورةٍ عامة، فإنّ "الفوضى" تأتي مضاعفة هذه المرّة، لكون الغياب أتى مفاجئًا، مقرونًا بغموضٍ لا يبدو أحدٌ قادرًا على فكّ شيفرته وألغازه حتى اللحظة، وهو ما يستبعد كثيرون إمكان "لململته" بشكلٍ سريع، حتى لو عاد الحريري إلى بيروت "في غضون يومين" كما وعد.
ولعلّ المفارقة وسط هذه المعمعة تتجلّى في أنّ بعض من يُعرَفون بأنّهم من "المقرّبين من الحريري" أضرّوا بالرجل ولم ينفعوه، حين ذهبوا بعيدًا في تصعيدهم في وجه "حزب الله" وإيران، مبرّرين الاستقالة التي أقدم عليها، بل ذاهبين لحدّ المطالبة باستشارات نيابية ملزمة على وجه السرعة، متهمين رئيس الجمهورية بمخالفة الدستور إن لم يقم بذلك، بل إنّ أحدهم لم يتردّد في اعتبار موقف الرئيس عون الذي اعتبر الحريري "ابناً له" إهانة لرئيس الحكومة، فإذا بمواقف الحريري نفسه تأتي منسجمة ومتماهية مع سياسة الرئيس، حتى في عدم قبوله بالاستقالة ما لم يتسلّمها باليد.
ولا شكّ أنّ هذا الأمر إن دلّ على شيء فعلى الصراع الذي تعيشه الكتلة بين التمسّك بالثوابت والمبادئ التي دأبت عليها من جهة، وضرورة معالجة الوضع المأزوم والاستثنائي الذي أفرزته التطورات الأخيرة من جهة ثانية، خصوصًا بعدما بات الشارع "المستقبليّ" نفسه يغرّد في سرب انتقاد السعودية بشكلٍ أو بآخر، وهو ما أمكن رصده في العديد من المناطق المحسوبة على "المستقبل" في الأيام الماضية، وشكّل سابقة من نوعها، لأنّ مؤيّدي الحريري شعروا في مكانٍ ما بذلٍّ يتعرّض له الرجل لم يسبق له مثيل، وهو ما زاد من نسبة التعاطف معه، حتى من جانب من كانوا يلومونه على مواقفه "المهادنة" قبل أيام قليلة.
بين الاستثمار والاستغلال...
ماذا يجري في كتلة "المستقبل"؟
هو سؤالٌ كبير تبقى الإجابة عنه مستعصية حتى إشعارٍ آخر، إشعار قد لا تكون عودة الحريري، إذا ما حصلت، كافية لتحديد ملابساته، في ظلّ السيناريوهات الكثيرة التي يمكن أن تذهب إليها الأمور.
وإذا كان ضياع الكتلة مفهومًا، خصوصًا بعد ما حُكي عن إمكان تنصيب "زعيم" جديد عليها بالمظلّة، فإنّ ما يبقى غير مفهوم أن يسعى بعض أعضائها لاستثمار "محنة" زعيمها لتحصيل المكاسب، التي قد تصل لحدّ تقديم أوراق الاعتماد هنا أو هنالك...