على الرغم من أزمة التلاعب بأعصاب اللبنانيين منذ نحو الأسبوعين نتيجة «قرار الرئيس سعد الحريري أن يأخذ إجازة في السعودية ليتأمّل في مسار الأحداث منذ تشكيله لحكومة العهد الاولى»، إلّا أنّ الشعوب اللبنانية لم تبدل عاداتها بالتلهّي بأسئلة شكلية لا تقدم او تؤخّر في تعديل مسار المشهد ولا في اصطفافات الواقفين على خشبة مسرح الأحداث التي يعيشها لبنان والمنطقة، هاربة من السؤال الأساسي والمفترض طرحه اليوم: هل نستحق كشعب كل هذا التلاعب بنا؟ ولعل هروبها فيه الكثير من الحكمة كون الجواب على مندرجات هذا السؤال يفتح الباب امام أسئلة نخاف أن نجد لها إجابات.
فهل هذه الشعوب المتعايشة على بقعة أرض اسمها لبنان تعيش في بلد موجود ام غير موجود؟ مستقل ام غير مستقل؟ سيّد وحرّ أم لا؟ ومن يسخّف هذه الاسئلة يكفي أن ينظر حواليه أو أن يقرأ بعضاً من تاريخنا الحديث والمعاصر ليُدرك صعوبتها بل جديتها وعمقها...
وفي هذا المجال يمكننا طرح اسئلة لا تنتهي، ألم نَعتدِ نحن على هيبة الدولة قبل أن يفعل الآخرون ذلك؟ ألم نهتك عرضها قبل كلّ متدخّل وحالم بالتدخل ومحتلّ وغازٍ سواء أكان عدواً او صديقاً، او صديقاً لشعب من شعوبنا وعدواً للشعب الآخر؟ ألم نضع الفرص الواحدة تلوَ الأخرى لنصنع وطناً نهائياً؟
وكان آخر هذه الفرص مع احداث العام 2005 وما نتج عنها من تسويات داخلية لا تقيم بلداً وتحالفات خارجية أدت الى اصطفافات لا يمكن أن نتحمّلها، ووضعتنا على تماس مباشر مع النار التي اندلعت في المنطقة التي تحيط بنا، ونحن لتاريخه نُكابر ونتصرّف كأننا نعيش في النعيم ولن يلحقنا أيّ أذى منها...
ألسنا شعوباً تعيش في ازدواجية محيّرة فهي من جهة تنادي بحريتها وحقوقها داخل الوطن وترفض أن تمسّ امتيازاتها من قبل شركائها، ومن جهة أخرى ترتمي في حضن راعٍ إقليمي او دولي وتنفذ له مطاليبه وأوامره من دون اي مناقشة؟ شعوب تستعين بالخارج لتُحافظ على بقائها في التركيبة الداخلية وتستعين به أيضاً لتمنع قوى خارجية تعاكسها من التدخل في أمور لبنانية...
شعوب تهدأ أحوالها وتنخفض أصواتها وتتقارب فور انعقاد التسويات الخارجية، لتعود الى الصراخ والتباعد والتصادم نتيجة أيّ تجاذب أو توتّر إقليمي يطفو على الساحة الإقليمية...
شعوب ترفض أن تعترف برأي عام وطني حقيقي، وتلتذّ أن تعيش في شبه وطن وشبه مجتمع...شعوب تعشق الخوض في غمار النقاشات الشكلية ولا تقبل أن تدخل في أساس المشاكل ولا تحاول أن تجد حلولاً لأيّ أزمة عميقة مترسّخة، لذلك فهي تحمل معضلات تعيش معها منذ الاستقلال بل قبله بكثير...
والأسوأ من كل ذلك، فهي تدرك أنها لا تعيش فقط مع مشاكلها وإنما أيضاً مع التعب والحزن والخوف الناتج عن عدم إيجاد حلول جذرية لها... شعوب تفتخر أنها عرفت أياماً ذهبية عندما أخضعت لأيّ شكل من أشكال الانتداب وأنّ الازمات والتوترات لم تأت إلّا في ايام الحكم الذاتي بكل أشكاله وألوانه بما فيه الاستقلال...
لدرجة أنّها تصرخ كل يوم بسرّها: «أيها الحكام أعيدوا إلينا أيام الانتداب المباشر، فقد أتعبنا وأذلّنا هذا الاستقلال»...