في غمرة الانتصارات التي يحققها الجيش العربي السوري والمقاومة والجيش العراقي والحشد الشعبي، وبمؤازرة ودعم من روسيا وإيران، والتي تمثلت في التقاء هذه الجيوش في "البوكمال" السورية والقائم العراقية، لتفتح بذلك الطريق من طهران إلى بغداد فدمشق وبيروت، وتسدِل بذلك الستارة على داعش وداعميها، وتحقق ما أرادوا جعله حلماً مستحيلاً.
هذا الانتصار المبين سيؤسس حتماً إلى مرحلة جديدة في الحرب على سوريا، نأمل أن يكون في الفصل الأخير وتعود سوريا كما عرفناها وكما نريدها أن تبقى موحدة في خط العداء لإسرائيل والمساندة والداعمة للحق الفلسطيني وحق المقاومة أينما كانت.
شرق أوسط جديد
هذا الانتصار الذي تحقق لم يكن صدفة أو نزهة، بل هو نتيجة تضافر إراداتٍ وعزم وتخطيط كلّف دماءً وشهداء حتى تمكن من دحر ما يُخَطّط، ورسم معالم هزيمة المشروع الإسرائيلي – السعودي – القطري – التركي، المدعوم أميركياً والذي أريد منه تدمير سوريا وتفتيتها وسحق المقاومة في لبنان، لإحلال الاستسلام مع إسرائيل وتمكينها من الهيمنة على منطقتنا وشعوبنا وثرواتنا.
وها نحن اليوم نرى هذا المشروع في طور الاندحار، والتأسيس لشرق اوسط جديد ليس الشرق الأوسط الذي أرادته إسرائيل بل الشرق الأوسط الذي تكون بوصلته القدس وطرُقه من طهران وبغداد ودمشق وعمان والرياض وبيروت.
ففي الـ"بوكمال والقائم"، كانت المعركة الفصل، وانتهت داعش إلى مزبلة التاريخ هي وإرهابها وداعموها، وقبلها كانت كركوك التي أنهت حلم الانفصال والتفكيك المدعوم إسرائيلياً.
أبشع مظاهر التعاون الارهابي
وفي أيام معدودة، تمكّن الحشد الشعبي من دحر المشروع الإسرائيلي العدواني الذي استظل القضية الكردية لتفتيت المنطقة، وعادت كركوك عربية – عراقية، وانتهت دويلة كردستان وأحلام مسعود البرزاني التقسيمية – هذا الانتصار شكّل دعمًا للجيش العربي السوري والمقاومة ما مكّنهم من تحقيق انتصار آخر على داعش والنصرة، وهو انتصار يبقى منقوصاً إن لم يسُتكمل بهزيمة تركيا السلطان العثماني الجديد إردوغان وطرده من سوريا، التي دخلوها بموافقة إيرانية – روسية لدحر داعش والنصرة، وإذ بنا نشاهد حقيقةً طالما جهد إردوغان العثماني بنفيها وهي حلفه مع هذه المجموعات الإرهابية.
فهل يعُقلُ أن تدخل القوات التركية إلى إدلب ولا تطلق عليها جبهة النصرة أية طلقة؟! بل نراها تستغلها حتى تفتح الطريق أمامها نحو الداخل السوري، في أبشع مظاهر التعاون الإرهابي! لكن هذه الحيلة التركية لن تنطلي على روسيا وإيران وقريباً سنرى إعادة النظر بذاك الاتفاق لأن تركيا – إردوغان لم تكن صادقة بوعودها والتزاماتها...
كان الرئيس السوري الدكتور بشار الأسد مدركاً منذ البداية للنوايا التركية التي لا تريد الخير لسوريا وللعرب، لكنه وافق الحلفاء على اتفاقهم مع تركيا – إردوغان لعدم زرع الانقسام في الخط الواحد، وقريباً عندما يتبدّل الأمر مع تركيا، سنرى مشهداً على الساحة السورية يؤشر إلى مزيد من الانتصارات بالإنجازات التي ضحّى الرئيس الأسد للوصول إليها.
استقالة تعيد خلط الأوراق
في هذا الواقع الإقليمي الجديد وما يحمله من انتصارات وانعكاسه على الساحة اللبنانية مزيداً من الاستقرار الأمني وإنتظام عمل المؤسسات بعد إنتخاب العماد ميشال عون رئيساً للجمهورية اللبنانية، وتشكيل حكومة جديدة تمكّنت خلال فترة وجيزة بالتعاون مع مجلس النواب وعلى رأسه دولة الرئيس الأستاذ نبيه بري من إنجاز العديد من القوانين في مقدمها:
• قانون الانتخابات النيابي الجديد القائم على النسبية.
• قانون موازنة العام 2017.
• قانون إقرار سلسلة الرتب والرواتب، الذي أنصف العاملين في الدولة بعد سنوات من المماطلة.
• التشكيلات والمناقلات القضائية.
• وغيرها الكثير من الأمور.
في هذا الواقع الإيجابي، جاءت الاستقالة الحدث التي أعلنها دولة رئيس الحكومة سعد الحريري من الرياض لتعيد خلط الأوراق محلياً وتطرح أكثر من علامة استفهام حول مستقبل الأوضاع في لبنان.
لا حرب على لبنان
بداية وقبل أن أخوض في تفصيل هذه الاستقالة وأسبابها وتداعياتها بخلاف كل ما ينقل في الإعلام من تصريحات ومواقف، أقول لكم أن لا حرب على لبنان لأن لبنان أصبح يمتلك بفضل جيشه وشعبه ومقاومته قوة تمنع أعتى القوى من مجرد التفكير بأي حرب عليه.
علينا أن نطوي هذه الصفحة وأن تتوقف بعض وسائل الإعلام وبعض المحللين والصحفيين عن بث هذه الأخبار المسمومة التي تضعف الجبهة الداخلية وتصيبها حقيقة بالوهن.
في غمرة هذه التطورات جاءت استقالة الرئيس سعد الحريري المفاجئة والملتسبة بظروفها وبتوقيتها وبيانها ومكانها، فهي كما تعرفون أعلنها من الرياض وليس من لبنان من خلال بيان كُتب له يشكل انقلاباً على مجمل الاتفاقيات اللبنانية – اللبنانية ويحمل اعتداءً وإعلان حرب على كل من حزب الله – المقاومة وإيران، وكأن الرئيس الحريري من خلال هذا البيان أراد أن ينهي حياته السياسية بيده وهو أمر مستبعد لرجل تمرس على مدى سنوات مقبولة وأصبح مدركاً لطبيعة التركيبة اللبنانية وتركيبتها الإقليمية المعقدة.
حملة اعتقالات منسّقة
لكن سرعان ما تبيّن الوضع بضوء حملة الاعتقالات التي نفذها ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان بواسطة الشركة الأمنية – الأميركية "بلاك ووتر" المدفوعة الأجر، والتي لا تتحرك بعملياتها الخارجية إلا بضوء أخضر من المخابرات الأميركية والإدارة الأميركية.
فقد عرفنا أن صهر الرئيس الأميركي دونالد ترامب جيرار كوشنير قد نسّق هذه الحملة مع الجانب السعودي، وهدفت بشكل أساسي إلى إقصاء كل الرموز والقوى السعودية التي تنافس محمد بن سلمان وتعتبر نفسها أحق بالحكم منه كمثل الأمير متعب بن عبد الله وزير الحرس الوطني وحتى الأمير محمد بن نايف الذي أقصاه من فترة وهو الآن في الإقامة الجبرية، وعدد كبير من رجال الأعمال والمال المعارضين لمحمد بن سلمان ولخططه المالية والاقتصادية.
الحريري ضحية
إذاً في الصراع السعودي – السعودي كان الرئيس سعد الحريري ضحية لأنه كان يمثل من خلال موقعه كرئيس حكومة لبنان موقع قوةً لا تثير الارتياح للأمير محمد بن سلمان وهو يشك بولائه له، بحيث ارتأى سمو الأمير ولي العهد أن إقصاء الحريري بهذه الضربة القاضية والمذِلة سيمكّنه من تحقيق هدفين رئيسيّين:
• أولاً:
إبعاد الرئيس الحريري عن المشهد السياسي اللبناني من خلال دفعه إلى تقديم استقالته ليصبح مواطناً سعودياً وليس رئيسًا لحكومة لبنان، وبالتالي تجريده من قوته، لينضمّ بذلك إلى السعوديين من أمراء ووزراء ورجال أعمال الذين أقصاهم محمد بن سلمان ووضعهم سجناء في فندق – سجن ريتز كارلتون في الرياض، وقد عبّر سماحة الأمين لحزب الله السيد حسن نصر الله بقوله إن الحريري لم يكن بالنسبة لمحمد بن سلمان أكثر أهمية من متعب ين عبد الله والوليد بن طلال.
• ثانياً:
الإتيان أو ترشيح شخصية سنية لرئاسة حكومة لبنان قد تكون شقيق الرئيس، بهاء الحريري الذي حالت التركيبة السعودية في العام 2005 من وراثته السياسة لوالده وجعلت من شقيقه سعد وريثاً حينها، وربما نظراً لعلاقته مع مراكز القوى السياسية حينها والممثلة بآل فهد وسلطان وعبد الله.
اشتباك كبير وأزمة مفتوحة؟!
وبالتالي فرئيس الحكومة الجديد سواء أكان بهاء الحريري أم غيره سيكون موالياً لمحمد بن سلمان ولن يشكل له أي حساسية داخلية سعودية، وسيعمل وفق ما تسمح به الظروف والمعطيات الإقليمية واللبنانية على تنفيذ رؤية وأهداف محمد بن سلمان تجاه حزب الله وإيران. وهو قد ينجح في ذلك أو يفشل، هذه مسألة أخرى، لأن محمد بن سلمان لم يعدم الوسائل، وهو سوف يستعمل الجامعة العربية يوم الأحد القادم في 19 تشرين الثاني 2017 للهجوم على إيران وحزب الله، وربما الدولة اللبنانية وربما يدفعه إلى اعتزال العمل السياسي نهائياً.
إذاً، سعي السعودية لتوريث تيار المستقبل وسعد الحريري لشخصية أخرى قد تكون شقيقه بهاء أو شخصية أخرى موالية لها.
هل نحن أمام اشتباك سياسي كبير وأزمة حكومية مفتوحة وطويلة قد تستمر إلى ما بعد الانتخابات النيابية القادمة؟
الجواب: لا أحد يملك الجواب على هذا السؤال الآن، لكن الثابت والأكيد أن حالة الاشتباك السياسي لن تؤدي إلى حروب ومشاكل أمنية.
والأمر الثاني أن الانتخابات النيابية حاصلة رغم هذه الأزمة، فقانون الانتخابات النيابية الجديد القائم على النسبية وتقسيم لبنان إلى 15 دائرة انتخابية سوف ينقل الوضع السياسي اللبناني إلى مشهد آخر مختلف عن المشهد الذي ألفناه بعد الانتخابات النيابية من العام 2009 واستمر بالتمديد حتى اليوم، وبالتالي لا مصلحة للقوى السياسية الأساسية كلها بتمديد جديد يؤدي إلى تمديد الأزمة.
التسوية أسقِطت...
فالأوضاع في لبنان بحاجة إلى حلول مؤقتة لكن لعقود طويلة، وهناك عهد رئاسي مجمع أنه لن يسمح بأن يعيش حالة الانتظار والانقسام كما حصل في العهد السابق، وبالتالي علينا أن نعرف أنّ التسوية بين اللبنانيين قد أُسقِطت من يدهم، على أمل استدراكهم خطورة سقوطها، وهذا ما سيجعلهم يبنون على أنقاضها تسوية جديدة تنقذ لبنان من أنقاضها كما أنقذوا الرئيس سعد الحريري ونصف عائلته من الرياض.