قد يؤخذ الكثيرون بالمضمون الاتهامي الذي صدر عن وزراء الخارجية العرب بحق إيران، ويقول ها نحن أمام التصعيد المتوقع، مخالفاً أبسط قواعد علم السياسة بالتدقيق في مضمون الدعوة التي خلص إليها البيان إجرائياً، وهي ببساطة لا شيء. فالبيان والقرار يقولان أشياء كثيرة «تشيطن» الدور الإيراني وحزب الله، لكن ثلاث جمل ذات معنى شطبت من البيان، الجملة الأولى، «بناء على ما تقدم تقرر الدول العربية قطع العلاقات الدبلوماسية مع إيران»، والجملة الثانية ذات المعنى «تتوجه الجامعة لمجلس الأمن الدولي لتصنيف إيران كدولة حاضنة للإرهاب وتصنيف حزب الله كمنظمة إرهابية»، والجملة الثالثة ذات المعنى، «تعلّق الجامعة عضوية لبنان لحين تمييز الحكومة اللبنانية نفسها عن حزب الله واتخاذها إجراءات تمنع تدخلاته بالشأن العربي». وهي جمل تمت صياغتها وكانت في أصل الدعوة السعودية المرفقة بالطبل والزمر للاجتماع العربي، وسبب اللغة العالية السقف للأمين العام أحمد أبو الغيط، قبل أن يكتشف أنه تهوّر وذهب بعيداً، لأنه لم تتم إحاطته بالمتغيرات وما فرضته من تبديل.
تزامن غير موفق في حظوظ آل سعود، بين انعقاد اجتماعهم وتداعيات الانتصار المدوّي الذي تحقّق في مدينة البوكمال السورية الحدودية مع العراق، ونهاية آخر معاقل داعش، والدور الميداني القيادي للجنرال قاسم سليماني في صناعة هذا النصر. فعندما وصلت الأصداء إلى عواصم العالم وخصوصاً في واشنطن وباريس ولندن وبرلين، تساقطت على رؤوس السعوديين الاتصالات التي تدعو للتريّث والابتعاد عن التصعيد: أوروبا لأن أولويتها باتت الانتصار على داعش، وهي تدرك حجم وأهمية دور إيران وحزب الله في هذه المواجهة، وتستعدّ للإنفتاح على الدولة السورية وفقاً للأولوية ذاتها، رغم مشاركتها الإعلامية في الكلام السياسي الانتقادي لما تسمّيه الدور والنفوذ الإيرانيين في المنطقة، أو التدخلات الإيرانية، والبرنامج الصاروخي لإيران، لكن على قاعدة التمسّك بالتفاهم على ملف إيران النووي، وحمايته، لكن واشنطن التي كانت تريد الاجتماع العربي التصعيدي بوجه إيران وحزب الله ورقة ضغط ومساومة على البوكمال، تبلغت ما جرى صباحاً، فقالت، انتهت اللعبة، فلا مبرر للمزيد.
مرة أخرى يبدو تهافت التهافت الخليجي، بعيداً عن الواقع ومنعزلاً عما يجري حوله، فيدير معاركه ببلاهة دونكيشوتية، تحارب طواحين الهواء، تهدر مهابتها ومكانتها وأوراقها وأموالها، بلا إنجازات، تستسلم لتشجيع لا تعلم مداه وأهدافه، وتفاجأ بسقوطه مع التطورات. هكذا جرى بعد شهرين من حرب اليمن، قال الأميركيون انتهت المهلة ونحن ذاهبون لتوقيع التفاهم على الملف النووي. وهكذا جرى مع التصعيد بوجه قطر، بمجرد دخول روسيا على الخط من بوابة سوق الغاز والتفاهمات مع الأميركيين حول تقاسم السوق الأوروبية، قال الأميركيون لا مبرّر لتصعيد ونحن مستعدون للوساطة. ولمَن لم يفهم من الخليجيين ومن يسير وراءهم ببلاهمة عمياء من بعض الحكومات العربية، التصعيد بوجه إيران له وظيفة أميركية، تكتيكياً كانت موضوع البوكمال، والإمساك بها بواسطة الجماعات الكرديّة المسلحة التابعة لهم، وانتهت بدخول الجيش السوري وحلفائه إليها يتقدمهم الجنرال سليماني برسالة معبّرة، يفهمها الأميركيون جيداً، واستراتيجياً تتصل بربط تكريس التفاهم النووي مع إيران بمشاركة روسية صينية في حلّ الأزمة النووية مع كوريا الشمالية.
الصغار يبقون صغاراً ولو امتلكوا مئات المليارات، واشتروا بها مَن يفكّر لهم، أليست عبرة كافية تجربة سقوط كردستان؟
أليس العبث بما تمثله رئاسة الحكومة اللبنانية لعب مراهقين ستكشفه الأيام وتظهر حجم الخسائر السعودية فيه؟
الخائفون من حروب هم أيضاً يقرأون ظاهر الكلام ولا يرون عميق الأفعال.