ليس خافيًا على أحد أنّ ما كان يُعرَف بقوى "8 آذار" لم تكن بمجملها راضية عن انتخاب العماد ميشال عون رئيسًا للجمهورية قبل عامٍ ونيّف. يومها، شُنَّت حملة على الرجل، من قبل الفريق الذي كان جزءًا لا يتجزّأ منه، فقيل تارةً أنّه جاهزٌ للانقلاب على حلفائه لتحقيق المكاسب، وطورًا أنّه أصلاً غير ثابتٍ على مواقفه. أكثر من ذلك، اعتبر البعض أنّ نسج الرجل تفاهماتٍ مع الأخصام، من "القوات" إلى "المستقبل"، ليس إلا مقدّمة لاستنساخ تجارب أسلافه من الرؤساء "المقيَّدين"، أو "الرماديّين"، كما يُقال.
وإذا كان السبب المباشر لما قيل أنّ جزءًا غير يسير من قوى "8 آذار" كان يفضّل الاتيان بالنائب سليمان فرنجية رئيسًا للجمهورية، لولا موقف "حزب الله" الثابت، الذي ذهب أمينه العام السيد حسن نصرالله لحدّ القول أنّ "للعماد ميشال عون دَيناً في رقابنا إلى يوم الدين"، فإنّ المفارقة أنّ الموقف اليوم بات مختلفًا، إذ تُجمِع هذه القوى أنّ عون، بأدائه في الآونة الأخيرة، دحض الكثير من الادعاءات بحقّه، معيدًا للرئاسة هيبة افتقدتها لعقودٍ.
ولأنّ عون جعل الكثير من أخصامه في السياسة يقرّون بدورٍ وطنيّ يلعبه على غير صعيد، فإنّ السؤال الذي يطرح نفسه داخل قوى "8 آذار" نفسها، ألم يحن وقت "المصالحة" بين رئيس الجمهورية و"حلفاء حليفه"، وفي مقدّمهم رئيس المجلس النيابي نبيه بري ورئيس "تيار المردة" النائب سليمان فرنجية؟.
الرابح الأكبر...
برأي كثيرين، فإنّ السنة الأولى من عهد الرئيس عون لم تكن على قدر التطلعات والآمال، بل هي لم تكن على قدر أمنيات وتطلعات عون نفسه، رغم كلّ "البروباغندا" التي استوجبت العكس، والتي تُوّجت بإطلالته التلفزيونية عشية الذكرى الأولى لانطلاقة العهد، والتي كرّر فيها الحديث عن "إنجازات" لا تعدو كونها في الواقع "واجبات" على السلطة السياسية، وإن كان الكثير منها لم يتحقق على مدى السنوات السابقة، من قانون الانتخاب إلى الموازنة، مرورًا بالتعيينات، التي كثرت الأقاويل حولها. ولعلّ عون نفسه لم يكن راضيًا عن "جردة" السنة الأولى من العهد، وهو ما حاول الإيحاء به في أكثر من مناسبة، من لحظة تشكيل الحكومة، التي رفض توصيفها بأنّها "حكومة العهد الأولى"، نظرًا للمحسوبيّات التي تحكّمت بتركيبتها، والتي جعلته يقول جهاراً إنّ عهده لن ينطلق بصورة فعليّة قبل الانتخابات النيابية، التي يفترض أن تفرز خريطة سياسية جديدة، بعد تسع سنواتٍ من عدم استفتاء الشعب في أيّ صغيرةٍ أو كبيرة.
لكن، ووفق قاعدة "مصائب قومٍ عند قومٍ فوائد"، عرف رئيس الجمهورية كيف يقلب "النقمة" التي أرادها له البعض، من خلال الاستقالة المريبة لرئيس الحكومة سعد الحريري من المملكة العربية السعودية، إلى "نعمة"، يثبّت عبرها أقدامه، ويؤكّد فيها أنّه قادرٌ على فعل الكثير، بعيدًا عن سياسة البكاء على أطلال الصلاحيّات المفقودة. وفي هذا السياق، لا يبدو مبالَغًا به القول إنّ الرئيس ساهم في وأد كلّ المخططات الفتنوية التي كانت مرسومة من خلال الاستقالة، وبالتالي في تنفيس الاحتقان في الشارع، الذي كان مقدّراً له أن يتسبّب بكارثة في حال لم ينجح "مايسترو" برتبة رئيس الجمهورية في ضبطه كما حصل، حين شهد قصر بعبدا أعلى درجات "الاستنفار" منذ سنوات.
وشكّلت مقاربة الرئيس أيضًا لقرارات وزراء الخارجية العرب دليلاً إضافيًا على نهجٍ مختلف تعتمده رئاسة الجمهورية، إذ يمكن القول إنّ الرجل "جرؤ حيث لم يجرؤ الآخرون"، فلم يختر النأي بالنفس عن الاتهامات العربية، المباشرة وغير المباشرة، للبنان ومكوّناته المختلفة، بل قرّر أن يقابل الحجّة بالحجّة، مبرزاً الخصوصيّة اللبنانية التي يجدر على العرب تفهّمها بعيدًا عن منطق النكايات السياسية، مطالبًا بشكلٍ واضح بتحييد لبنان عن الصراعات الحاصلة في المنطقة، لا توريطه بها بحجّة رفض تدخّل أحد المحاور في شؤونه، ما يشرّع بشكلٍ أو بآخر تدخّل المحور الآخر.
وعلى الرغم من أنّ الرئيس عون تعرّض للكثير من الانتقادات على خلفية المواقف المتقدّمة التي اتّخذها في مرحلة من مراحل الأزمة إزاء السعودية، متحدّثاً صراحةً ليس فقط عن وضعٍ ملتبس لرئيس الحكومة، بل حتى عن عملية احتجاز له، فإنّ معظم الأفرقاء يتّفقون على اعتباره "الرابح الأكبر" دون منازع من كلّ ما حصل، ليس فقط لأنّه أنهى مفاعيل الاستقالة في الشكل والمضمون، خصوصًا بعدما نجح في إقناع الحريري في "التريّث" بالاستقالة التي كان قد أعلن عنها، ولكن أيضًا لأنّه نجح في التغطية على "إخفاقات" السنة الأولى من العهد بشكلٍ واضحٍ لا لبس فيه.
أين بري وفرنجية؟
انطلاقاً من كلّ ما سبق، فإنّ قوى "8 آذار" لا تنظر سوى بعين الرضا لأداء رئيس الجمهورية خلال المرحلة الماضية، وهي تتفق على أنّه، ورغم انفتاحه على جميع الفرقاء من دون استثناء، لم يبدِ أيّ "رماديّة" في مقاربته للأزمات التي تشهدها البلاد، بل أظهر تماسكًا وصلابة في إدارة الأزمة، ما جعل الموقف الرسميّ اللبنانيّ قويًا ومؤثرًا بشهادة الخصوم قبل الأصدقاء.
من هنا، فإنّ كثراً يتساءلون عن سبب عدم انعكاس هذه الأجواء عن العلاقة بين الرئيس عون وبعض مكوّنات هذا الفريق، والتي توتّرت بشكلٍ واضحٍ عشيّة الانتخابات الرئاسية. وفي هذا السياق، يبدو أنّ الأزمة الأخيرة ساهمت إلى حدّ بعيد في توطيد العلاقة بين رئيس الجمهورية ورئيس المجلس النيابي نبيه بري، الذي كان من أقلية رفضت انتخابه رئيسًا. وإذا كانت هذه العلاقة شهدت في السنة الأولى مراحل أخذ ورد كثيرة، وصلت لحدّ تبادل الاتهامات وتقاذفها بين الجانبين داخل الحكومة، فإنّ ما حصل بعد إعلان الحريري استقالته من السعودية غيّر الكثير من المعادلات، وضاعف من وتيرة التنسيق بين الرجلين، وصولاً لحدّ التطابق في الموقف، ما أظهر أنّهما في المواقف الاستراتيجية والوطنية يقفان في صفٍ واحدٍ.
وإذا كان معظم المراقبين يعتقدون أنّ ذلك سيكون له انعكاسه الواضح على العلاقة المشتركة في المرحلة المقبلة، باعتبار أنّ مقولة "الكمياء المفقودة" بينهما بالحدّ الأدنى أصبحت من الماضي، فإنّ العلاقة مع رئيس "تيار المردة" النائب سليمان فرنجية لا يبدو أنّها تسير على المنوال نفسه، رغم تسجيلها بعض "الخروقات النوعيّة" في الشكل، خصوصًا بعد اللقاء الثنائي الذي سُجّل بين عون وفرنجية، في إطار الاستشارات التي أجراها رئيس الجمهورية في قصر بعبدا. فعلى الرغم من الأجواء الإيجابية التي أفرزها اللقاء، بقيت "التحفظات الشكلية" على أكثر من خطّ، ليظهر وكأنّ "المزايدات" ما تزال سيّدة الموقف، وهو ما أوحت به تعليقات بعض قياديي "المردة"، خصوصًا في موضوع الحريات الاعلاميّة، ما تمّ تفسيره وكأنّه رسالة مبطنة للرئيس. وهذا الأمر، إن دلّ على شيء، فعلى أنّ الوصول إلى "المصالحة" يبقى دونه عوائق تحتاج لمبادرة قد تصبح أكثر من ضرورية في حال ذهاب البلاد لأزمة عميقة كما توحي بعض المؤشرات، علمًا أنّ هناك من يتحدّث عن وساطات بدأ "حزب الله" ببذلها، باعتبار أنّ الأجواء باتت مهيّأة لها أكثر من أيّ وقتٍ سابقٍ.
تحدٍ كبير...
في "جردة" العهد "العوني"، لا يبالغ أحد في القول إنّ الأسبوعين المنصرمين يتفوّقان في الأهمية على السنة الأولى من العهد كاملةً، وإنّ ما حقّقه رئيس الجمهورية خلالهما أهمّ من كلّ ما تحقّق طيلة العام الماضي، على أهميته وقيمته. إلا أنّ الأهمّ من ذلك، أنّ ما تحقّق خلال هذين الأسبوعين سيرتّب مسؤوليات مضاعفة في المرحلة المتبقية من العهد.
وإذا كان صحيحًا أنّ المرء يكرم ويهان في الامتحان، فإنّ الأكيد أنّ المرحلة المقبلة، التي يُقال أنّها لن تكون سهلة، ستشكّل تحديًا ليس لرئيس الجمهورية وحده، بل لحلفائه كذلك الأمر، خصوصًا أنّ "الدَّين" الذي تحدّث عنه الأمين العام لـ"حزب الله" قبل أشهر، بات اليوم أكبر بكثير، وبالتالي يتطلب مقاربة مسؤولة من نوع آخر...