تتعرض اوروبا حالياً لازمة وجودية حقيقية قد تكون الاكثر حرجاً لها منذ عقود. فبعد ضربة البريطانيين الذين صوتوا بالخروج من الاتحاد الاوروبي، وبعد التراجع الكبير في النفوذ السياسي في العالم اثر السيطرة الاميركية على القرار الاوروبي حتى الامس القريب، ها هي القارة العجوز امام تحد جديد وصعب يتمثل في حال الشلل الذي تعيشه المانيا بعد ان باءت محاولات المستشارة الالمانية انجيلا ميركل بالفشل في تشكيل ائتلاف حكومي.
عانت دول اوروبية وغير اوروبية خاضت تجارب مماثلة من عدم تشكيل حكومات لفترة طويلة، ولكن الوضع الالماني مغاير، اذ لطالما اعتبرت المانيا دولة اساسية في القارة الاوروبية تمحورت حولها غالبية القرارات، كما انها كانت محطة لاتخاذ مواقف تتعلق بالقارة ككل، يتوجه اليها الجميع اما للتشاور او للتوسط للخروج بكلمة واحدة. اليوم، في ظل الشلل الالماني والمأزق البريطاني، لا يبدو في الافق الا فرنسا لتعويض النقص الحاصل، وهذا ما يسعى اليه بجهد الرئيس الفرنسي الحالي ايمانويل ماكرون الذي يجاهد ليمحو صورة سلفه فرنسوا هولاند الذي اكتفى بالجلوس في المقعد الخلفي وترك المقود لغيره من الدول الاوروبية والعالمية.
لا تبدو خيارات ميركل في المانيا عديدة، فأحلاها مرّ اذ ستضطر اما الى اجراء تنازلات اساسية لاستقطاب احزاب تؤمّن لها تشكيل حكومة ائتلافية (على غرار الحزب الديمقراطي الاجتماعي) وهو ما سيضرّ بصورتها ويقلّص نفوذها وقد يخلق لها مشاكل داخل الحكومة في مرحلة لاحقة، واما السير بتشكيل حكومة اقليات وهو قرار ينطوي على مخاطر كبيرة اقلّها تشكيل جبهة معارضة عارمة ستقف حائلاً امام تنفيذ كل ما يصدر عن الحكومة، كما انها ستشكل سابقة في التاريخ الالماني الحديث وستنزع الصورة التي طالما امتازت بها ميركل لجهة قدرتها على ايجاد الوسائل الكفيلة باقناع الاحزاب الانضمام الى الحكومة، متسلحة بنتائج الانتخابات التي صبت لصالحها في السنوات الاخيرة، وجعلتها تتبوأ منصب المستشارة مرة تلو الاخرى.
اما الامر الاخير المتاح امام ميركل، فهو الاتفاق مع رئيس الجمهورية على اجراء انتخابات وهو امر يمكن حصوله، انما لم يعد من الممكن التكهن بنتائجه بالنسبة الى ميركل وحزبها، فالناخبون سيتساءلون عن قدرتها على تحقيق اي من الوعود التي ستطلقها، كما انهم سيشككون بقدرها على التفاهم مع الاحزاب الاخرى واطلاق العجلة الطبيعية بعد فترة الركود.
في السباق الاوروبي، لحقت السيارة الالمانية بالسيارة البريطانية، ويظهر تقدم للسيارة الفرنسية، انما لا بد من التركيز على تداعيات النكسة الالمانية في حال تم تخطيها بالسرعة المناسبة، لان اوروبا بحاجة فعلاً اليوم الى قوتها اكثر من اي وقت مضى، في ظل الدخول الروسي البارز على منطقة الشرق الاوسط، والتراجع الاميركي في السياسة الدولية، فهل ستعمل فرنسا على اخذ الدور الالماني، او هل ستستطيع ان تساهم في انقاذ الوضع عبر شدّ عصب الدول الاوروبية واعادة توحيدهم لتفرض الدور الذي طالما خصص لاوروبا في المنطقة والعالم، وجعل منها لاعباً اساسياً لا يمكن تخطيه في حقبتين: السيطرة الثنائية على العالم (اميركا والاتحاد السوفياتي)، والسيطرة الاحادية (اميركا وحدها)، وما تلاها؟.
الكرة اليوم في الملعب الالماني، والعيون تشخص الى ما ستسفر عنه النتائج في الايام المقبلة، لان مواضيع عدة يتعلق البت بها بما ستشهده المانيا في الساعات المقبلة، ومنها على سبيل المثال لا الحصر: قضية اللاجئين، الصراع مع روسيا والصورة الجديدة للشرق الاوسط والدور الاوروبي فيها، الاستقلال السياسي عن اميركا التي بدأت تتجّه نحو التراجع عن الساحة الدولية...
لا شك ان تحسن الوضع الاوروبي بشكل عام، ينعكس ايجابا ًعلى منطقة الشرق الاوسط والعالم، لان تعدد اللاعبين اصحاب النفوذ يبقى اهم وافضل بكثير من قلتهم منعاً للتفرد بالقرارات وحصرها بخيار واحد قد يصيب وقد يؤدي الى كارثة.