في العام 2012، وبنتيجة لخلاصة إجتماعات "هيئة الحوار الوطني اللبناني"، التي ضمّت أقطاب السياسة في لبنان من مُختلف الإنتماءات الطائفيّة والحزبيّة، برئاسة رئيس الجُمهورية السابق العماد ميشال سليمان، تمّ الإعلان عن وثيقة خاصة بتحديد إستراتيجيّة وطنيّة موحّدة للدفاع عن لبنان في وجه التهديدات الخارجيّة. وهذه الوثيقة التي حملت إسم "إعلان بعبدا" ضمّت 17 بندًا، أبرزها البند 11 الذي جاء فيه "التمسّك باتفاق الطائف ومُواصلة تنفيذ كامل بنوده"، والبند 12 الذي جاء فيه "تحييد لبنان عن سياسة المحاور والصراعات الإقليميّة والدَوليّة، وتجنيبه الإنعكاسات السلبيّة للتوتّرات والأزمات الإقليميّة، وذلك حرصًا على مصلحته العليا ووحدته الوطنيّة وسلمه الأهلي (...). لكن مع مرور الوقت بدأ البعض يُطلق النار الإعلامي والسياسي على "إعلان بعبدا"، وُصولاً إلى حدّ إعلانه "ميتًا" وإلى حد السخرية منه ومن عرّابه! واليوم، يبدو أنّه تُوجد محاولات جدّية لإطلاق وثيقة جديدة مُماثلة لإعلان بعبدا، إن لم يكن بالشكل فعلى الأقلّ بالمضمون، في حال الرغبة بالخروج من الأزمة السياسيّة التي بدأت بإعلان رئيس الوزراء سعد الحريري إستقالته من الرياض في الرابع من الشهر الحالي. فما هي المعلومات المُتوفّرة في هذا الشأن؟.
بعيدًا عمّن يعتبر أنّ السعودية خسرت رهانها بتطيير الحُكومة اللبنانيّة، أو حتى باستبدال رئيس "تيّار المُستقبل" سعد الحريري بشخصيّة أخرى-بحسب الإتهامات المُساقة ضُدها من خُصومها السياسيّين، وبعيدًا أيضًا عمّن يعتبر أنّ تريّث الحريري في الإستقالة نزولاً عند رغبة رئيس الجُمهوريّة العماد ميشال عون هو دليل على حريّته الكاملة بالتصرّف وعلى أنّه لم يستقل تحت الضغط كما تردّد، يُمكن الحديث عن وتيرة سريعة للتطوّرات في لبنان وعن مُعطيات مُتغيّرة بشكل دائم، بسبب دُخول أكثر من طرف إقليمي ودَولي على خطّ الأزمة الناشئة، لإحتواء أضرارها، وللعمل على إعادة الأمور إلى المسار الذي سبق هذه الإستقالة. لكن وعلى الرغم من الإرتياح النسبي الذي شاع في البلاد بعد البدعة الدستورية التي إبتكرها دُعاة التهدئة بالحديث عن "تريّث" في تقديم الإستقالة، وهو مخرج غير موجود في الدُستور، وغير مبني على أي مادة قانونيّة، فإنّ صفحة الأزمة لم تُطوى نهائيًا-كما تُحاول بعض الجهات ترويجه، لأهداف سياسيّة.
وفي الواقع، إنّ ما حصل في الساعات القليلة الماضية لا يعدو كونه مُحاولة لكسب الوقت، قبل الوصول إلى "نقطة اللاعودة"، في حال الإعلان عن تقديم رئيس الحكومة إستقالته رسميًا، والإعلان عن قبولها من قبل رئيس الجُمهوريّة. ومن المُنتظر أن يشهد الوقت المُستقطع سلسلة من الإتصالات والإجتماعات على أعلى مُستوى، لإيجاد المخرج المُناسب للحريري للتراجع كليًا عن إستقالته، ولإيجاد المخرج المُناسب لحزب الله أيضًا حتى لا يبدو وكأنّه رضخ لأي ضُغوط خارجيّة. وبالتالي، يدرس الرئيس عون في هذه المرحلة الخيارات المُمكنة للخروج بصيغة تؤكّد مُجدًدًا حياد لبنان، في ظلّ حرص واضح من قبل رئيس الحُكومة على التشديد على أن يكون "النأي اللبناني بالنفس" جديًا وفعليًا وليس كلاميًا. يُذكر أنّ سقف المُفاوضات المُرتقبة في لبنان محدود ولا يتجاوز مسألة "النأي بالنفس"، خاصة في ظلّ الصراع الإقليمي والدَولي الحاصل. وفي هذا السياق، لا بُدّ من الإشارة إلى أنّ قائد الحرس الثوري الإيراني محمد علي جعفري أكّد أخيرًا أنّ نزع سلاح "حزب الله" مسألة غير قابلة للتفاوض، في رسالة إلى الدول الإقليميّة والدَولية التي تضغط لتحصيل تنازلات من جانب "الحزب"، تتجاوز الملفّ اللبناني الداخلي.
وبغضّ النظر ما إذا كان من مهلة سرّية لفترة "التريّث" التي تحدّث عنها رئيس الحُكومة، حيث تحدّث البعض عن فترة تتراوح ما بين 15 و30 يومًا لبلورة الحل، الأكيد أنّ رئيس الجُمهورية سيُبادر في الأيام القليلة المُقبلة، وربما في الساعات المقبلة، إلى وضع خريطة طريق لإيجاد المخرج المناسب للوضع القائم، وسيكون دوره كبيرًا وحاسمًا في المُستقبل القريب، حيث أنّ عودة الأمور إلى سابق عهدها في البلاد يتوقّف على الأسلوب الذي سيُدير فيه الرئيس عون المفاوضات مع كل من رئيس الحكومة من جهة و"حزب الله" من جهة أخرى. وهامش المُناورة غير كبير هذه المرّة، لأنّ أي حل كلامي وغير مقرون بإجراءات ميدانية سيؤدّي إلى الفشل في حلّ الأزمة في نهاية المطاف، ما يستوجب التوصّل إلى حلول فعليّة وملموسة تؤكّد حياد لبنان واللبنانيّين الفعلي عن أزمات المنطقة.
وهذا التوجّه سيقود بدون أدنى شكّ إلى وثيقة شبيهة بإعلان بعبدا السابق، في حال سارت الأمور إلى خواتمها الإيجابيّة، وإذا كان البعض من القوى السياسيّة لن يقبل بتسمية "إعلان بعبدا 2" من حيث الشكل ولدواع مُرتبطة بمواقف سياسيّة سابقة له وحتى بموقف شخصي من الرئيس السابق سليمان أيضًا، فإنّ أي وثيقة مُستقبليّة للخروج من الأزمة ستكون حتمًا شبهية بمواد إعلان بعبدا السابق. وعدم التوصّل إلى مخرج جديد للنأي بالنفس فعليًا هذه المرّة وليس كلاميًا، سيبقي الأزمة قائمة، وسيجعلها مفتوحة على كل الخيارات السيئة التي نجحت الإتصالات والتدخلات المحليّة والإقليمية والدَوليّة في تأخيرها وفي طيّها مرحليًا، لكنّها لم تتخلّص منها ولم تنجح في طيّ صفحتها نهائيًا.