ما وقد «تريّث» الرئيس سعد الحريري في تقديم استقالته، فإن الخطوة التالية المتوقعة هي عودة مجلس الوزراء الى الانعقاد، في وقت ليس ببعيد. وهو ما بدأه «رئيس الحكومة» فعلياً، أمس، بافتتاحه المؤتمر المصرفي العربي، وباعلانه انه سينصرف الى توقيع بريده المتراكم منذ ثلاثة أسابيع. وعليه، فإن «التريث» يعني عودة عن الاستقالة، وبذلك تكون مفاعيل أزمة إقالة الحريري واحتجازه في السعودية قد انتهت... وكأنها لم تكن.
وليس تفصيلاً، في هذا السياق، إعلان النائب وليد جنبلاط، بعد لقائه الحريري أمس، أن «الغيمة مرت»، وتأكيده «التمسك بمضامين التسوية»، وحديثه عن «انطلاقة جديدة».
أما كل ما يشيعه السعوديون وأتباعهم في لبنان عن دعوات الى مؤتمر حوار أو طاولة حوار للبحث في سلاح المقاومة فلن يعدو كونه مجرد مشاورات يجريها رئيس الجمهورية ميشال عون في قصر بعبدا مع قيادات سياسية، لحفظ بعض ماء الوجه السعودي، ولـ«تبليع» جمهور تيار المستقبل الضربة التي وُجهت الى زعيمه «من بيت أبيه»، وتمهيداً لعودة انتظام العمل الحكومي. فلا رئيس الجمهورية الذي أشار في خطاب الاستقلال الى «تحرير لبنان من العدو الاسرائيلي والتكفيري» في هذا الوارد، ولا حزب الله سيسلّم تحت ضغط استقالة ما لم يسلّمه تحت ضغط عدوان 2006. فيما يدرك الجميع أن قتال الحزب في سوريا بات جزءاً من صراع دولي ـــ اقليمي، وأكبر من اقالة الحريري نفسه. باختصار، بحسب مصادر مطلعة على موقف حزب الله، «هذه طروحات غير واقعية وليست مطروحة للبحث. ونقطة على أول السطر».
المصادر نفسها تؤكد أن السعودية (وأتباعها في لبنان) خرجت من أزمة إقالة الحريري واحتجازه «خاسراً أول وأوحد». وقد تحتاج الى بعض الوقت لتقييم سوء التقدير الذي وقعت فيه بناء على نصائح أطراف لبنانية بأن الضغط على حزب الله يتطلب الخروج من الحكومة وتفجير التسوية السياسية. ناهيك عن سوء إخراج الاستقالة وتوقيتها. ففي المعلومات أن السعوديين طلبوا من دار الفتوى الايعاز الى خطباء المساجد بمهاجمة حزب الله والدعوة الى التظاهر في خطب الجمعة التي تلي الاستقالة. لكن مرور أسبوع في ظل الالتباس الذي ساد وضع الحريري في الرياض، معطوفاً على تحركات الدائرة اللصيقة به، أدى الى امتناع الدار عن تلبية الطلب. كما طلب السعوديون من رئيس القوات اللبنانية سمير جعجع، أكثر المتحمسين للاستقالة، القيام بخطوات «ما فوق سياسية»، كقطع طرقات وغير ذلك، ما وضعه في إحراج بين رفض الضغط السعودي وبين غياب الغطاء السني لخطوات كهذه، وبين الوقائع على الأرض في ظل وجود جيش ملتفّ حول رئيس الجمهورية.
في المقابل، كانت المكاسب اللبنانية بالجملة:
أولاً، انتزع لبنان تجديد الاعتراف الدولي بأهمية الحفاظ على استقراره. فالتحرك الفرنسي ـــ المصري للوصول الى مخرج من الأزمة التي افتعلتها الرياض كان واجهة لإجماع دولي على رفض هذه السابقة في العلاقات بين الدول.
وإذا كان الفرنسيون قد تصدّروا هذا التحرك لاعتبارات تاريخية وأخرى ذات صلة بعلاقتهم بآل الحريري، إلا أن ذلك لم يكن ليتم من دون ضوء أخضر أميركي. إذ إن واشنطن تعتبر الاستقرار في لبنان مكسباً مهماً لها في ظل انعدام التوازن لمصلحة حلفائها في البلد. هذا الضغط أدى الى إجبار السعودية على إطلاق الحريري وترك الأمر للفرنسيين لتدبّر المخرج «اللائق». وبالتزامن مع وصول الحريري الى باريس السبت الماضي، كانت مروحة الاتصالات الفرنسية تشمل القاهرة وطهران والرئيس عون وحزب الله وبقية الأطراف السياسية، وتم التوصل بنتيجتها الى «التريث في تقديم الاستقالة». ومع نزول رئيس الحكومة في مطار بيروت ليل الثلثاء كانت كل الأطراف السياسية الرئيسية في جو بيانه الذي سيعلنه من قصر بعبدا في اليوم التالي.
ثانياً، انتزع رئيس الجمهورية اعترافاً محلياً ودولياً ببراعته في إدارة الأزمة وبأهمية «الرئيس القوي» في قصر بعبدا.
ثالثاً، رغم الاهانة التي وجّهت اليه، تمكّن الحريري من إنعاش شعبيته على أبواب الانتخابات المقبلة، بعدما كانت المعطيات الانتخابية تشير الى أن خصومه المنشقين عن تياره، كأشرف ريفي، يقضمون من شعبيته، إلى حد أنه كان يدرس طرحاً بالاستقالة في آذار المقبل لتعويم وضعه انتخابياً، وهو ما لم يعد في حاجة اليه اليوم.
رابعاً، انتزع حزب الله، المستهدف الأول من كل «الخربطة» السعودية، اعترافاً دولياً ومحلياً بدوره العاقل في مقاربة الأزمة.
فمنذ اليوم الأول لبيان الاقالة، تعامل الحزب مع الأمر، كما الرئيسان عون ونبيه بري، على أساس أن الحريري محتجز ومكره على تقديم الاستقالة لأن مصلحته السياسية والمالية والانتخابية ان يكون في السرايا. لذلك قرّ الرأي على عدم قبول الاستقالة وكل ما يصدر عن رئيس الحكومة أثناء وجوده في السعودية.
في غضون ذلك، لم تنقطع الاتصالات بين عائلة الحريري وحزب الله، مداورة ومباشرة، وعلى خطين: خط بهية الحريري مع مراجع عليا في الحزب، وخط نادر الحريري ــ حسين الخليل. وسمع مسؤولو حزب الله تقديراً كبيراً من العائلة «لتصرفه بنبل، وعدم استغلاله لحظة الضعف الحريري، وحفاظه على كرامة رئيس الحكومة ووحدة البلد». كما استقبل الحزب، عشية عودة الحريري ليل الثلاثاء، موفداً فرنسياً تمنى إبقاء الخطاب هادئاً والتجاوب مع المبادرات المطروحة لتمرير فكرة التريث. علماً ان الأمين العام للحزب السيد حسن نصرالله كان قد استبق هذه التمنيات في كلمته الأخيرة، ليل الاثنين، بتسليف الحريري موقفاً في ما خص «النأي بالنفس» عندما أعلن أن المهمة «أنجزت في العراق» وأن الحزب «لم يرسل أسلحة إلى اليمن أو البحرين أو الكويت»... إعلان أتى، هو الآخر، في سياق فقء «الدمّلة السعودية». إذ تدرك الرياض أن الحزب ما كان ليفكر بالانسحاب من العراق لولا أن «المهمة أُنجزت»، ولا هو في وارد السكوت عن مجازرها في اليمن.