ندين، نحن اللبنانيين، للسعودية بشكر. لا حاجة الى تفصيل المشارِب، جميعُنا ندينُ للمملكة بالشكر الأجزل، ليس لأنها أعادت إلينا رئيسَ حكومتِنا (احترامًا للدور الفرنسي)، بل لأنها أمّنت مقاعدَ سعد الحريري (وفوقها حبّة مسك) في انتخابات أيار 2018، وجعلت من كان متردّدًا في إبداء مشاعر الحبّ والتعاطف تجاه هذا الرجل الطيّب يفعل اليوم بلا قيودٍ أو اعتبارات.
ندين، نحن اللبنانيين، الذين لم نصدّق كلمةً واحدةً مما قال الرئيس الشاب طوال سبعة عشر يومًا من الغياب، للسعودية لأنّ الالتفاف الشعبي الذي وفّرته من خارج الحاضنة السنيّة المعتدلة للحريري غير مسبوق.
ندين، نحن اللبنانيين بكلّ جوارحنا وفُكَرنا وأخلادنا، الى السعودية لأنها جعلت من كان للرئيس ميشال عون كارهًا في الأمس، من أشدّ المعجبين بأدائه السياسي-الدستوري-الأبويّ الحكيم اليوم.
عاد الحريري بنبرةٍ مختلفة، بملامح مختلفة، بخطابٍ مختلف. وكأني بالرجل استعاد شيئًا من لبنانيةٍ سُلِخت منه في غير مناسبة، وكأني به استعادَ شيئًا من روح. لم يُفاجأ الرجل بزخم الاستقبال وهو الذي كان يتوقع منذ لحظة إعلان رئيس البلاد رفضَ استقالته، تعاطفًا شعبيًا لم يحصده حتى في أيام العز التي تلت استشهاد والده رفيق الحريري. بقلبٍ قويٍّ ونبرةٍ مستعادة من “شباطيات” كلّ عام يوم تحلّ ذكرى الاغتيال، راح الحريري يعطي دروسًا في “الوفاء” في رسالةٍ شديدة الوضوح الى من غدرَ به في مرحلة الغياب، مقابل إعلاء شأن الرئيس الذي تمسّك به. غاب الخطاب التصعيدي تجاه طهران عن يوميات الرجل في ساعات ما بعد العودة، حتى إنه لم يتوانَ عن مصافحة السفير الإيراني لدى لبنان بحرارةٍ خلال مراسم التهاني
بعيد الاستقلال في القصر، فيما “نأى بنفسه” بدبلوماسية مفضوحة عن مصافحة السفير السوري.
يخطئُ الحريري وأعوانُه إن تحدثوا عن “حفظ ماء وجه”. لم يجرؤوا على ذلك حتى. فلا عودةُ الرجل، ولا سلوكياتُه، ولا قرارُه بالرَيْث في إشهار استقالته مكتوبة، تشي بحفظ ماء وجهٍ للجهة الخاسرة من ثلاثية: الرئيس-الشعب-الضغط الدولي.
هو انتصارٌ صريحٌ للقرار اللبناني. انتصارٌ مطعّمٌ بنغمة “النأي بالنفس” التي لن تفارق شفتَي سعد الحريري أغلب الظنّ طوال فترة الحوار وما بعدها كي يبدو متصالحًا مع التسويغات العلنية التي قدمها للناس في الملأ والتي همس بخلافها في أذنَي رئيس البلاد ورئيس المجلس النيابي. أما ضمانات الاستمرار فحديثٌ آخر مع تصعيدٍ إيراني صريح مفادُه أن سلاح حزب الله غير قابل للنقاش.
وأمام سيناريوهَي عودة الحريري عن استقالته، وعودته ما بعد استقالته، واضحٌ أن القرار الدولي بحماية لبنان من “عواصف الحزم” اتُخِذ في الكواليس الأوروبية والأميركية، وأنّ التراجعَ السعودي تلافيًا لخسارة مزيدٍ من الأرصدة في لبنان والمنطقة وكذا في الغرب كان المنفذ الأيتم، لا سيّما في الساحة السنيّة التي كانت تغلي طوال رحلة المطالبة باستعادة زعيمها.
عاد الحريري ببساطةٍ وفي فمه ماء، خرج منه وعدٌ أمام قاعدته بأن يبقى معها. سيقطفها الرجل انتخابيًا من دون أدنى شكّ، وهو كان مهّد لمثل هذا القطاف يوم أعلنَ من المملكة، وفي ظروفٍ غير طبيعية، أن الانتخابات قائمة في موعدها. ربّما كان الرجل على يقين بأن الرئيس عون والرئيس بري والشعب اللبناني برمته لن يتخلوا عنه بهذه البساطة، ولن يسمحوا للقرار اللبناني الذي استصنع تسويةً مثمرة بأن يسقط عند أول مفترق، لا بل عشية استقلال استحال في نظر سيّد بعبدا عيدًا بعدما كان ذكرى.
لم يكرّس الحريري وحده قاعدته بمثل هذه العودة الأشبه بعودة البطل الفاتح، بل كرّس عون معه عهدًا ثابتًا يحظى اليوم أكثر من أيّ وقتٍ مضى بإعجاب الداخل كما الخارج. لا يخفي بعض “الأوفياء” الذين تحدّث عنهم الحريري استغرابهم من أداء عون التاريخي لا بل يهمسون في قرارات أنفسهم وفي جواراتهم بسؤالٍ يطرحه جميع اللبنانيين على أنفسهم: ماذا لو لم يكن هو الرئيس؟ ربما لو عاد هؤلاء الى حقيقة ما دار بين عون والحريري في الاتصال الأول والأخير بينهما في مرحلة ما قبل انتقال الحريري الى باريس لانتفى العجب. ربما لو علموا أن حدس عون انتصر بشدّة يوم أبلغه الحريري اقتضابًا بأنه يستقيل “الآن” على شاشة العربية، لانتفى العجب. ربما لو بلغتهم كلمات عون الأربع في معرض التعليق على استقالة الحريري وفحواها: إنتَ منيح يا ابني، لانتفى العجب كلّ العجب، ولفهم جميع الخيّرين والعابثين أن ما حصل يمكن قراءته على أنه انتصارٌ نادرٌ للقرار اللبناني أكثر من كونه انكسارًا لمن أراد لهذا القرار انكسارًا! أغلب الظنّ يتمتم اليوم من لم يعتد على هضم الحريري العائد عبارةً تتناقلها الشفاه اللبنانية بلا خفر: شكرًا “مملكة الخير” لأنك “شرعنتِ” حبّنا لسعد الحريري وتمسّكنا به رئيسًا لحكومة بلادنا!