كل مفاجأة سلبية للعدو هي مفاجأة إيجابية لنا. هذه قاعدة تحكم منطق المواجهة مع عواهر الجزيرة، أولئك الذين لا يقيمون وزناً لكرامة، حتى أقرب الأقربين، من واصلي الرحم ونسب الدم وحرمة أهل البيت وخالطي الخبز بعرق الأيام.
في محنة سعد الحريري الأخيرة، صدم مجنون السعودية بأمور كثيرة، ليس أولها صمود الحريري نفسه في سجنه المتنقل براً وجواً، ورفضه الأخذ بكل ما يطلب منه، من إشعال فتنة في لبنان الى تنازل قهري لأخيه المهاجر، وجعل من صمد معه من أهل بيته في لبنان يقوون على مواجهة الضغوط ويتحملون غدر أهل الدار، وينجحون في حفظ توازنهم، وترك العقل يسيطر على مشاعر القلق والغضب.
وربما سيأتي يوم تروى فيه حكاية «ليالي الرياض الحزينة» بكل فصولها. لكن صمود الحريري كان مدخلاً رئيسياً لكل من أفشل محاولة انقلاب آل سعود في لبنان.
لكن الصدمة الأكبر في أن لبنان قدم نموذجاً جديداً عن المفاجآت، أولاها وأقواها وأكثرها وضوحاً وتأثيراً، كانت، بالنسبة إلى مجانين الجزيرة، ما قام به رجل اسمه ميشال عون الذي كان في عداد المغضوب عليهم عند حكام الجزيرة، ثم صار عدواً مطلوباً رأسه في كل لحظة. وإذا كان هؤلاء لن يتوقفوا عن مطاردة سعد الحريري حتى إطاحته، أو العمل لبناء رجل على هيئة بهاء أو غيره ، فإنهم سيسعون بكل ما أوتوا لإطاحة رئيس الجمهورية، ليس بتهمة أنه لم يقدم الولاء لهم يوماً، وليس بتهمة أنه يقف الى جانب المقاومة، وليس بتهمة أنه رفض الانجرار خلفهم في خريف سمّوه ربيعاً عربياً، بل لأنه سحب من قلب حنجرتهم لقمة الحريري التي كانوا يلتهمونها.
عون قبل ربع قرن، وعون قبل عشر سنوات، وعون قبل أقل من سنة، وعون قبل أشهر قليلة، هو نفسه الرجل الذي تسيطر عليه قيمه. أخطاء السياسة والتقدير لا علاقة لها بصلابة الرجل. ومتى اجتمع عنده الحق والمنطق صار، كما يسميه السيد حسن نصرالله، جبلاً لا تثنيه عواصف ولا يهزّه تهويل. والذي لا يعرف عون منذ تصدّيه للمسؤولية العامة، لا يعرف حجم تطور الرجل، علماً ومعرفة وخبرة وحكمة. وهو الذي يجيد التمييز بين الخصومة السياسية وما يسميه الشأن الوطني. لم يكن وقوف عون ضد الاتفاق الأميركي – السعودي – السوري في تسعينيات القرن الماضي وقوفاً عادياً. ولما عاد الى بيروت، تعرّف الناس على ثبات موقعه عند جمهوره الذي ثبّته الزعيم الأكثر شرعية عند المسيحيين. وعندما شاهد آخر الجنود السوريين يغادر لبنان، لم يحتج الى من يدله على أن بناء الدول لا يمنع المصالحات والتسويات من دون ذل. ولما وقف الى جانب المقاومة في عام 2006، لم تكن إلا شهور قليلة قد مرت على تفاهمه مع حزب الله. لكنه لم يقف على خاطر قريب أو بعيد، صديق أو عدو، وظل يقاتل الى جانب المقاومة حتى حققت انتصاراً كان من القليلين الذين رأوه محققاً في الايام الاولى للحرب. وعندما قرر الترشح لرئاسة الجمهورية، لم يكن يتنازل وهو يفتح الابواب والأذرع لتسويات مع ممثلي بقية اللبنانيين الذين يريد أن يكون رئيسهم. لم تكن مشكلته مع تيار آل الحريري أكبر من مشكلته مع «القوات اللبنانية» وشلة 14 آذار. ولكنه، كان مستعداً دوماً لتحقيق التسوية الممكنة. وهو ما حصل عند انتخابه رئيساً للجمهورية. فلا هو تنازل عن نظرته الى الواقع العربي، ولم يتراجع عن اقتناعه بالمقاومة ودور سلاحها، ولا هو صار رقماً مهملاً، كما كثيرون لا أثر لهم أثناء مغادرتهم قصر بعبدا وبعدها.
لذلك، لم يكن ممكناً لميشال عون أن يقبل بما حصل مع سعد الحريري. ولولا خشية عائلة الحريري على سلامته من أي تصعيد، لكان ميشال عون قال الكلام الحقيقي من اللحظة الاولى، وهو الذي أتيح له الاطلاع على كل تفصيل ممكن حول حقيقة ما يحصل في الرياض. ومع ذلك، حرص عون على وضع برنامج زمني لتصعيد موقفه، ولم يكن يخاف الذهاب الى الأمم المتحدة شاكياً السعودية التي تخطف رئيس الحكومة.
متى اجتمع عنده الحق والمنطق صار، كما يسميه السيد نصرالله، جبلاً لا تثنيه عواصف
خلال أسبوعين متواصلين، لم يترك عون عنواناً في لبنان أو خارجه إلا قصده بحثاً عن آلية تجبر السعودية على إطلاق الحريري. وبينما كان بعض حلفاء الحريري أو الغادرين به ينظّرون لإبقائه قيد الاحتجاز، والسير في مشروع الفتنة السعودية، كان عون، بنبل قلّ نظيره، يضع جانباً كل تباين أو خلاف مع الرجل أو الآخرين. وكان يزيح من على مكتبه كل الملفات على أنواعها. وكان ينام ويستيقظ على عنوان واحد، وعلى مهمة واحدة: فكّ أسر الحريري مدخل إلزامي لحماية لبنان!
هي من المرات النادرة التي يرى فيها اللبنانيون رئيساً بهذا الحجم. حتى أعتى خصومه، والحاقدين عليه، اضطروا الى الصمت وكتم غيظهم، بينما كان أهل الفتنة يعملون على إطلاق حملة ضد عون، وهم محقّون في ما تثبّتوا منه، وهو أن عون صار غطاءً لكل لبنان.
أن تكون قوياً اليوم، بما يكفي لحفظ كرامتك وحريتك، وبما يكفي لحفظ مكانتك وحقك في الدفاع عن نفسك، من دون أن تكون عرضة لابتزاز أو إذلال، فهذا يعني أن تكون منتمياً الى عهد ميشال عون.
في العهد العباسي، ضاق الحاكم أبو جعفر المنصور ذرعاً بعدم موالاته من قبل سادس الأئمة عند الشيعة جعفر الصادق فأرسل له : «لِمَ لا تغشانا (تأتينا) كسائر الناس؟»، فأجابه: «ليس لنا من الدنيا ما نخافك عليه ولا عندك من أمر الآخرة ما نرجوك له».