قد تكون الدولة اللبنانية الدولة الوحيدة المحايدة دينياً، بين مجموع الدول العربية التي ينص دستورها على أن الإسلام دين الدولة. وبالحدّ الأدنى يقع لبنان في محيط يتراوح حجم الحضور الديني فيه، بين تكريس الهوية الدينية للدولة، كما هي الحال في إسرائيل والسعودية وإيران، أو تكريس دين رئيس الدولة كما هي الحال في سوريا، أو اعتبار الدين المصدر الرئيسي للتشريع، كما هي الحال في مصر.
الدولة اللبنانية في الفقه الدستوري، لا دين لها، بل إن طابعها مدني، وتحمل حتى سمات العلمنة. ولكن الدولة في جوهر دستورها، تحتضن التنوّع الديني، وتؤدي فروض الإجلال للخالق، من دون الالتزام بدين معيّن. وتعطي للطوائف المعترف بها، حقوقاً دستورية، كمثل التحكّم بقوانين الأحوال الشخصية.
إن المادة التاسعة من الدستور، تحفظ حريّة المعتقد، لكن القوانين تقيّد هذه الحريّة وتحجّمها، بمعنى أن للبنانيين الحق في الانتماء فقط إلى الأديان والمذاهب المعترف بها قانوناً. وحريّة المعتقد محميّة بالدستور، لكنّها منتقصة بالواقع القانوني. ولا تستقيم إلا بإقرار قانون مدني للأحوال الشخصية ولو كان اختيارياً. عندها تكون المادة التاسعة من الدستور ضامنة فعلاً لحريّة المعتقد. أما في الوضع الراهن، فإن قوانين الدولة تنتهك المادة التاسعة من دستورها وتنتهك معها شرعة حقوق الإنسان التي يستند إليها الدستور.
هذه نظرة للبنان من داخله، أما النظر إليه من خارجه، فيجعلنا نرى أنه لا يزال متقدّماً بما لا يُقاس عن محيطه، في الترجمة السياسية والحقوقية والمجتمعيّة، لتنوّعه الطائفي. وقد بدأت قصة ولادته بنضال أقليّتين، هما الموارنة والدروز في جبل صغير، أرادوه ملجأً لممارسة معتقداتهم بحريّة في زمن طغيان الدولة الإسلامية لقرون طويلة.
هذا اللبنان الذي نحتفل بعد أقل من ثلاث سنوات، بالمئوية الأولى لولادة دولته، هو فعل إرادة تشاركت فيها، على مراحل وعلى درجات، مكوّناته الطائفية كلّها. إنه تراكم اختبارات صعبة في حياة مشتركة، لم تخلُ من نزاعات دموية. لكنّها حياة أفضت إلى صيغة ميثاقية تكرّس في جوهرها ما حدّده الاتحاد الأوروبي شرطاً للدول التي تريد الانتماء إليه. وأعني بذلك: روح الانفتاح والتسامح والتعدّدية.
لقد احتجنا إلى عشرات السنين قبل أن يصعد رئيس جمهوريّتنا إلى منبر الأمم المتحدة، معلناً بثقة أن لبنان يعتبر نفسه مؤهلاً لأن يكون مركزاً لحوار الحضارات والأديان والأعراق، وأن يستضيف لهذه الغاية، منظّمة جديدة من منظمات الأمم المتحدة، تكون مهمتّها تطوير ثقافة السلام في العالم. إننا نطرح من موقع التجربة إدارة التنوع كحلّ سلمي لنزاعات العالم المعاصر.
لم تكن إدارة التنوّع أمراً سهلاً في بيئةٍ يتحكّم الشرع الإلهي بمفاصل تاريخها ومجتمعها وإنسانها. بيئة تربّت على ثقافة التميّز عن الآخر لا بل الامتياز عنه. ثقافة جعلت اليهود يؤمنون بأنهم شعب الله المختار. ويتصرّفون على هذا الأساس، وجعلت المسلمين يؤمنون بأنهم خير أمّةٍ أخرجت للناس، ويتصرّفون أيضاً على هذا الأساس.
في بحر هذه الثقافة الدينية الحادة، خاض المسيحيون في الشرق مغامرة الانتماء إلى الأوطان والقوميات المستوعِبة للطوائف الدينية. نترك للتاريخ أن يحكم على نجاح هذه التجربة في دولتي سوريا والعراق اللتين نشأتا بعد الحرب العالمية الأولى. ونتوقف عند التجربة اللبنانية منذ تأسيس الدولة بعد الحرب الكونية الأولى أيضاً.
إن النصوص التأسيسية للدولة اللبنانية، وأعني بها دستور 1926، وما سبقه وتلاه من أدبيّات قانونية وسياسية، تؤكّد كلّها تنامي وعي عميق واقتناع راسخ بحفظ التنوّع الديني للمجموعات التي تشكّلت منها الدولة. وفي كل مرة وقع فيها الصراع على السلطة بين هذه المكوّنات، كانت الغلبة لاستمرار صيغة الحياة المشتركة والميثاق الحافظ للتنوّع. وبعد كل اختبار، كانت الدساتير والقوانين والأعراف، تكرّس شراكة بين اللبنانيين قد تنقصها العدالة أو أنها أحياناً تؤسّس لصراعات جديدة، لكنها شراكة تتلمّس طريقها إلى نظام مستقر يحفظ التنوّع والتعدد في إطار وحدة الدولة.
لقد صعّبت ولادة دولة إسرائيل بطريقة فوقية وقسرية التجربة اللبنانية في إدارة التنوّع. فالعدوان لم يكتفِ باحتلال أرض أو قتل أبرياء، بل سعى إلى تخريب نسيج المجتمع، باقتلاعه الفلسطينيين من أرضهم، ورمي قسم منهم في أرض لبنان، الدولة الفتيّة. وواجهت التجربة اللبنانية منذ مطلع الثمانينات تحدّياً جديداً، هو الصراع العربي- الإيراني الذي لبس أيضاً لبوس الدين في صراع مذهبي شيعي- سنيّ تستغلّه مصالح الدول الكبرى، وتفجر على جوانبه حروباً مذهبية، دينية، وتولّد إرهاباً.
هنا، تبرز قيمة التجربة اللبنانية بما تختزن من روح الانفتاح واحترام التنوّع والتسامح. تجربة تقدّم للبنان كما لمحيطه وللعالم، حلولاً تبدأ بما يشكّل الأساس أي "التربية على رفض العنف"، وقبول وجود الآخر وحقّه في الاختلاف. ولنا في تطوّر الزيجات المختلطة التي توافق عليها الدولة كبر دليل على الانفتاح.
التجربة اللبنانية دعوة إلى ثقافة جديدة وأفكار جديدة وسلوك جديد. وهي دعوة لاعتماد قيم الأديان حلّاً لصراعات أبنائها. دعوة لمواجهة الإرهاب والحروب بثقافة السلام واكتساب مبادئ العيش معاً، واحترام حريات المعتقد والرأي. هي نقيض الداعشية ونقيض دولة الدين الواحد. وهي لا تخلو من السقطات وتحتاج حتماً للتطوير لكي تلائم أكثر مقتضيات العصر، لكنها تجربة تصلح لاعتمادها حلّاً سلمياً للنزاعات.
الديني سابق للمدني في تكوين وعي الشعوب في هذه المنطقة. لكن التجربة اللبنانية فتحت أمام المدني باباً واسعاً في الدستور كما في التشريع، فما المانع من اعتماد صيغتها حلّاً مرحلياً لحفظ التنوع واحترام التعددية فكرية كانت أم دينية أم عرقية؟
لا سلام ولا استقرار إذا استمرّ الفكر الآحادي الإلغائي مسيطراً، أما تكريس الهوية الدينية للدول، فهو مشروع صراعات لا تنتهي. ولبنان بنموذجه، يدعو إلى صيغة أخرى نابعة من تجربته التي تجعل منه رسالة أكبر من وطن بحسب رؤيا يوحنا بولس الثاني.
والتجربة اللبنانية تريد للدين أن يكون في خدمة السلام داخل المجتمعات وبين الشعوب. وتريد للمعطى الإلهي أن يكون قوة دفع إيجابية لقضية السلام والتنمية. وهي تريد إنهاء أي صراع، وخصوصاً الديني منه بدبلوماسية الانفتاح المرتكزة إلى القيم الأخلاقية والدينية.
إنها دعوة لاستبدال قوة السلاح بقوة الحوار.
*ألقيت في مؤتمر دولي نظّمه في جبيل المعهد السويدي-الإسكندرية بعنوان "نظرات في دور الدين في الدبلوماسية والسياسة الخارجية والعلاقات الدولية".