من يعرف رئيس التيار الوطني الحر ميشال عون، لا يمكنه سوى ان يعرف رئيس الجمهورية العماد ميشال عون، فقد ظهر بشكل واضح ان رئيس الجمهورية، وعند اللزوم، لا يختلف ابداً عن الفترة التي تولى فيها رئاسة التيار الوطني الحر، وان عناده واصراره هما من الميزات التي رافقته الى قصر بعبدا.
واتت الازمة الحكومية الاخيرة التي تسببت بها اعلان رئيس الحكومة استقالته من على شاشات التلفزة السعودية في الرياض، لتثبت هذا الامر. وبعد ان نجح في تخطّي العقبة الاولى التي تمثلت بعودة الحريري الى لبنان بإجماع محلي ودولي، ها هو عون يعمد الى الانتقال للخطوة الثانية. واللافت في خطواته انها تأتي وفقاً لتقديراته واجندته الشخصية وليس لتوقيت آخر، وهذا ما صدم ويصدم البعض. فقد بدأ الكثيرون يعدون العدة من اجل المشاركة في طاولة حوار مماثلة لتلك التي دعا اليها الرئيس السابق ميشال سليمان في محاولة لم تنجح، وأنهت عهده باتساع الهوة السياسية التي سادت بين الافرقاء اللبنانيين، وذهب هؤلاء الى درس اجوبتهم على الدعوة التي حسموا انها ستوجه اليهم، حتى ان هناك من وضع في رأسه شروطاً لتلبية الدعوة. ولكن فات هؤلاء ان عون تعلم من تجربة سليمان، كما انه ليس من النوع الذي يرضى بامكان عدم احترام موقعه وعدم القدرة على جمع الكل على موقف واحد، لذلك عمد الى اطلاق سلسلة مشاورات كانت نسختها الاولى من اجل التجضير لعودة الحريري الى لبنان بالتزامن مع حملة دبلوماسية لبنانية غير مسبوقة اثمرت في وقت قصير فنجحت بإجماع محلي (او لمزيد من الدقة بموافقة غالبية ساحقة من اللبنانيين).
هذا النجاح بنى عليه عون ليطلق المرحلة الثانية من سلسلة المشاورات والتي ستركّز على ما بعد عودة رئيس الحكومة الى لبنان، والبحث في الخطوات الكفيلة باعادة الوضع السياسي في لبنان الى ما كان عليه قبل الاستقالة. المهم في الموضوع ان عون استطاع ان يجمع حوله الاطراف السياسية الاساسية في لبنان، على غرار ما فعل قبيل انتخابه رئيساً، فتجاوب الحريري مع تمنيه في التريث وفتح بالتالي المجال امام الاتصالات التي تردد ان حزب الله لن يعرقلها، بل سيقابلها بانفتاح، خصوصاً وان عون سيكون الكفيل بتأمين التوازن للجميع. ولعل ما يشجع حزب الله وحلفاءه في الخط السياسي، هو تقديرهم العالي للموقف الذي اتخذه الرئيس من السعودية، حيث لم يتردد في توجيه الاتهام لها باحتجاز الحريري ومنعه من التحرك بحرية، وهي خطوة لم تكن معهودة من قبل، اضافة الى ما تبعها من حملة سعوديّة على الرئيس اللبناني عبر وسائل الاعلام، وردّ عليها عون على ما يبدو بعدم مشاركة لبنان ممثلاً بوزير الدفاع بمؤتمر وزراء دفاع التحالف العربي والاسلامي لمكافحة الارهاب، علماً ان لبنان فرض نفسه على هذه الساحة كونه البلد الاول الذي تمكن من دحر منظمة "داعش" واخواتها في الارهاب من الاراضي اللبنانية بقوة ذاتيّة، ولو انه تلقى بعض الدعم اللوجستي من الخارج، الا ان العمليات الميدانيّة كانت له وحده. وبالتالي، فإنه في ميزان الربح والخسارة من المشاركة، فإن لبنان يبقى رابحاً ولو انه لم يحضر.
مع الاعتراف بوجود "قطبة مخفية" أدّت الى عدم المشاركة اللبنانية، بعد ان قيل ان القرار كان مغايراً، خصوصاً وان النية كانت موجودة من قبل عون لتخفيف الهجوم على السعودية، ضمن توافق مع الرئيس الفرنسي والرئيس المصري، وهو ما التزم به الرئيس اللبناني، فإن المسألة اخذت منحى مختلفاً على ما يبدو.
ولمن لا يزال يعتقد ان الظروف تحتّم على عون التصرف مثل سليمان والدعوة الى طاولة حوار، سيأتيه الجواب بأن الاختلاف بين الرجلين كبير، وكبير جداً، وان عون لن يقع في فخ طاولة الحوار مجدداً، وسيكون القرار عبر نسجه شبكة توافق داخلي متين من جهة، ومظلة امان دولية تحمي ما تم الاتفاق عليه، فما الذي سيتخبئه المرحلة الثالة من المشاورات بعد توقع نجاح المرحلة الثانية؟.