في مقارنة بين الصينيين والعرب الذين يفاخر كل منهما بحضارة عريقة تعود إلى آلاف السنين، وتراث شرقي متميّز له خصائصه وسحره، يصل المرء إلى فوارق عجيبة اليوم بين أبناء وأحفاد الحضارتين يتفكّر في أسبابها ومنتهاها. مثل العرب، تعرّض الصينيون لظلم واحتلال وتآمر استعماري ونهب للثروات ومذابح ما زالوا يدرّسونها للأجيال كي يحصّنوهم ضدّ إمكانية عودتها. ونهب الاستعمار البريطاني ثرواتهم على مدى عقود، وأدخل إلى عقولهم وقلوبهم حبّ الأفيون، والذي حوّلهم إلى أمّة غير قادرة على الإنتاج، وأمّة فقيرة مستهلكة لا يحسب أحد لها حساباً. ولكن، ومنذ خمسين سنة فقط، وضعت الصين استراتيجية وطنية للنهوض، ودرست مناطق ضعفها ونقاط قوّة الآخرين، وقرّرت أن تتعلم وتستفيد من آخر ما توصّل إليه الآخرون، وأن توطّن فعلاً العلوم والتكنولوجيا، وأن تتعامل بصدق مع كلّ التحديات التي تواجهها ففشلت مرّة على الطريق وتعثّرت مراراً، ولكنها كانت دائماً، وفي جميع
الحالات مصمّمة على الاستمرار، إذ لا خيار لديها سوى الاستمرار إذا كانت فعلاً راغبة أن تصل إلى الأهداف الوطنية المرسومة لها. وكان أسلوبها في التعلّم هو أن تشتري أي منتج وتفكّكه كي تتوصّل إلى مكوّناته الأساسية، وتحاول إعادة تصنيعه، وفي الحالات التي لم تنجح بها اضطرت إلى شراء المعرفة بأغلى الأثمان، ولكنها لم تأخذ هذه المعرفة وتجترّها إلى أن تستهلكها، ولكنها أضافت عليها وطوّرتها بطريقة تفوّقت بها على المصدر الذي باعها لها أصلاً. وعلى سبيل المثال لا الحصر تمتلك الصين اليوم أرقى وأسرع شبكة قطارات في العالم، أرقى وأسرع من قطارات اليابان وفرنسا، الأمر الذي يبدو خيالاً لا يُصدّق منذ عشرين سنة، كما طوّرت حتى على الطائرات التي كانت تعمل على تجميعها فقط، وأضافت إليها عناصر جعلتها شريكة في الاختراع والإنتاج. ولكن الانتاج ليس هدف الصين الأول اليوم، إنما هدفها الأوّل هو امتلاك المعرفة في كافة المجالات، فمن يمتلك المعرفة يمكن له أن ينتج في أيّ زمان ومكان، ولكن من لا يمتلك المعرفة لا يمكن له أن ينتج إلا تقليداً ونسخاً لما ينتجه الآخرون، ولذلك فإنّ أهمّ ما تركّز عليه الصين اليوم هو العلوم
والتقنيات، مؤمنةً أنّ الابداع وليس المال هو الطريق إلى العالمية، والإمساك بناصية القوّة، ومن أجل ذلك تحوّل الشعب الصيني برمّته إلى جيش عقائدي من العاملين والعاملات المؤمنين بقضية وطنية هامّة، والمستفيدين جميعاً من هذا التطوّر الهائل الذي حقّقوه في وقت قياسيّ، بحيث إنّ مؤتمر الحزب الشيوعي الأخير ركّز على إزالة الفروق التنموية بين الريف والمدينة، والقضاء على الفساد، وبناء حزام واحد، بحيث يصبح العالم شريكاً في هذه النهضة الاقتصادية والثقافية والمعرفية التي تشهدها الصين، وقد فعلوا كلّ ذلك ليس من خلال تقليد الغرب أو الانصياع لأحكامه، إنما من خلال الحفاظ على تراثهم وتطويره، والاستفادة من آخر ما توصّل إليه العالم وتطويره في نسخة صينية فاقت النسخ التي تعلّموا منها. فالطبّ الصيني اليوم، على سبيل المثال لا الحصر، هو الذي يحظى بثقة المواطن الصيني، وإذا أتيحت له خيارات فهو يختار طبّ بلاده بديلاً عن الطبّ الكيميائي (الغربي)، وكلّه ثقة أن طبّ بلاده يتفوّق على طبّ الآخرين. وبمقارنة سريعة بين طريقة تعامل العرب مع ما ورثوه عن الآباء والأجداد في علوم الطبّ والفلك والموسيقا والرياضيات
والآثار، نجد أنّ العرب تناسوا كلّ منجزات الأجداد، وأصبحوا زبائن شراء لكلّ ما ينتجه الغرب، دون أن يعملوا أبداً على تطوير ما يمتلكوه، أو توطين العلوم والمعرفة التي توصّل إليها الغرب، بل أصبحوا مستهلكين فقط يفاخرون بما توصّل إليه الغرب من إنتاج. ما يعاني منه العرب على وجه العموم هو حالة استلابية تجاه الغرب الذي استعمرهم، وضعف إيمان بما ورثوه من حضارة أجدادهم وأسلافهم، بحيث لم يعكفوا أبداً على تطويرها ومواكبتها لمتطلّبات العصر، وانعدام اليقين بامتلاك المعرفة لاعتقادهم أنّه بإمكانهم استيراد المعرفة، بينما هم لا يستوردون سوى المنتج وليس المعرفة للتوصل إلى هذا المنتج، والأهمّ من هذا وذاك هو انعدام شعورهم كأمة واحدة قادرة على وضع رؤاها وأهدافها واستراتيجياتها والعمل الدؤوب من أجل تحقيق هذه الأهداف لما فيه خيرهم وخير أجيالهم المستقبلية. هل يجب أن يدفعنا هذا إلى اليأس؟ أبداً، بل يجب أن يدفعنا إلى مراجعة أساليب وآليات عملنا، والاستفادة من أساليب البلدان التي تشبهنا أصلاً ولكنها حقّقت نهضة فريدة في زمن قياسي. هل يمكن أن نتدارس اليوم المبادرة الصينية الهامّة؛ الحزام الواحد، ونعمل ككتلة جغرافية
إقليمية واحدة كي نكون جزءاً فاعلاً من هذا الحزام، الأمر الذي سينعكس إيجاباً على بلداننا وشعوبنا، وعلى التعلّم والانخراط بهذه التجربة الصينية التي تستحقّ التقدير والاحترام، والتي يمكن لنا أن نواكبها ونتعلّم منها ونستفيد في طرائق وأساليب الوصول إلى مشروعنا النهضوي العربي الذي بات اليوم ضرورة وجودية للعرب جميعاً، فإما أن نكون أو لا نكون.