لا شكّ أنّ "البلبلة" التي أحاطت بموقف لبنان الرسميّ من اجتماع وزراء دفاع "التحالف الإسلاميّ ضد الإرهاب" في السعودية لم تأتِ من فراغ، بدءًا من تكليف رئيس الجمهورية العماد ميشال عون وزير الدفاع يعقوب الصراف تمثيل لبنان في هذا المؤتمر، إلى "سحب" التكليف منه والحديث عن "اعتذار" عن عدم المشاركة، وصولاً إلى خفض التمثيل إلى مستوى السفير اللبناني في الرياض، والذي قالت بعض الأوساط أنّه شارك بصفة "مراقب"، لا أكثر ولا أقلّ.
صحيحٌ أنّ المواقف الرسمية أوحت بأنّ "البلبلة" التي حصلت سببها أنّ رئيس الجمهورية، حين كلّف الصراف بالمشاركة، لم يكن يدرك أنّ لبنان ليس عضوًا في هذا التحالف، الذي أشرِك به دون علمه قبل سنتين، وهو ما أوضحته له وزارة الخارجيّة لاحقًا، إلا أنّ ما حصل يقود إلى طرح سلسلة علامات استفهام، فهل ما حصل بريءٌ فعلاً، ولا أبعاد سياسيّة له على الإطلاق، أم أنّه يشكّل جزءًا من سياسة "المواجهة" مع السعودية، التي يبدو أنّها لم تنتهِ فصولاً بعد؟ وهل من "رسالة" أرادت الدولة اللبنانية إيصالها من خلال هذا الموقف، وأيّ "تداعياتٍ" يمكن أن تحملها على الوضع العام؟.
موقفٌ مبدئيّ صرف!
ليس خافيًا على أحد أنّ التوقيت "الملتبس" الذي أتى فيه الموقف اللبناني من اجتماع وزراء دفاع ما يُسمّى بـ"التحالف الإسلاميّ ضدّ الإرهاب" يعزّز الفرضية القائلة بأنّ مثل هذا الموقف ليس بريئًا ولا عفويًا، بل إنّه يحمل رسائل مبطنة لا يمكن تجاهلها أو القفز فوقها بكلّ بساطة. ويعود ذلك بشكلٍ أساسيّ إلى "الغموض" الذي تشهده العلاقات اللبنانية السعودية للمرّة الأولى منذ اتفاق الطائف، والذي جعل الكثيرين من المحسوبين على السعودية قبل غيرهم يرسمون علامات استفهام حول سياسة المملكة في هذه المرحلة، خصوصًا بعد استقالة رئيس الحكومة سعد الحريري "المريبة" من الرياض، وما أحاط بها من ملابسات وشائعات، ومن ثمّ "تريّثه" في بيروت، وما أحاط به أيضًا من شائعات عن تموضع جديد للرجل، ولو غير مباشر.
وإذا كانت كلّ هذه الظروف توحي بأنّ الدولة اللبنانية أرادت، انطلاقاً من ذلك، توجيه رسالة واضحة للسعودية، مفادها بأنّ الزمن قد تغيّر، وأنّ ما كان ساريًا في السابق لم يعد بالضرورة كذلك وبصورةٍ موازية اليوم، فإنّ المعنيّين حرصوا في المقابل على التقليل من شأن هذه الاستنتاجات، عبر القول بأنّ ما حصل لا يعدو كونه موقفاً "مبدئيًا" صرفاً، وذلك ربطاً بالجدل الذي أثاره تشكيل التحالف الإسلاميّ ضدّ الإرهاب قبل سنتين، والذي تمّ وضع لبنان في عداد الدول المؤسّسة له من دون أن يكون لبنان على معرفة به، وهو ما استنكرته الخارجية وقتها، وذلك في ظلّ حكومة تمام سلام، حيث اعتُبر الأمر وكأنّه محاولة لفرض أمر واقع على لبنان، بضمّه لتحالفٍ هو لم يكن عمليًا من مؤسّسيه، بمُعزلٍ عن مدى تطابق الموقف الرسمي اللبناني معه ومع أهدافه أو عدمه.
ولعلّ مشاركة لبنان في اجتماع الرياض في نهاية المطاف من خلال السفير لدى السعودية عبد الستار عيسى إن دلّت على شيء فعلى "حسن النوايا" في هذا السياق، سواء شارك السفير بصفة "مراقب" أم غير ذلك، باعتبار أنّه كان بالامكان "مقاطعة" الاجتماع لو أنّ أبعاد الموقف اللبناني كانت سياسية بالفعل، علمًا أنّ هناك من يقول إنّ هذا "الإخراج" أتى فقط منعًا لأيّ تأويلات أو تفسيرات في غير موضعها للموقف اللبناني، وبالتالي لتدارك أيّ تداعياتٍ لا تتوخّى المصلحة اللبنانية كان من الممكن أن يلجأ إليها رعاة المؤتمر، خصوصًا في هذه المرحلة الدقيقة التي لن يستفيد فيها لبنان من تعميق خلافاته مع الخليج، ولا سيما بعد ما حصل على هامش اجتماع وزراء الخارجية العرب، والذي وصفه الكثير من المراقبين بأنّه كان عبارة عن "قطوعٍ وقد مرّ".
تحفّظات وتوجّسات...
بعيدًا عن التفسيرات التقنيّة الملتبسة لما حدث، يرى كثيرون أنّ الأبعاد السياسيّة لا شكّ حاضرة في الموقف اللبناني، وإن حرص الرسميّون على نفيها، وذلك لوجود الكثير من التحفظات والتوجسات من الاجتماع وأهدافه، سواء من حيث الزمان، أو المكان، ودلالات كلّ منهما.
ولعلّ المفارقة التي توقّف عندها الكثيرون تكمن في أنّ اجتماع الرياض كان الأول من نوعه للتحالف الإسلاميّ ضدّ الإرهاب، على الرغم من أنّ هذا التحالف قد تشكّل في العام 2015، أي قبل سنتين، إلا أنّه لم يعقد أيّ اجتماعٍ له طيلة الفترة السابقة، التي كانت فيها الجماعات الإرهابيّة، من "داعش" إلى "جبهة النصرة" وما لفّ لفّهما، تنشط بشكلٍ قويّ جدًا من سوريا إلى العراق مرورًا بلبنان ومصر وصولاً إلى الدول الأوروبية والغربية. وما أتى ليزيد الطين بلّة أنّ هذا الاجتماع أتى بعد إعلان ما يُعرَف بـ"محور المقاومة" بقيادة إيران النصر على "داعش" وبدء القضاء عليها، ما طرح علامات استفهام عن نوع "الإرهاب" الذي يريد التحالف قتاله اليوم، وسبّب "اليقظة المتأخّرة".
ولأنّ الاجتماع الذي عقد أتى بعد أسبوعٍ واحدٍ على تصنيف الجامعة العربية لـ"حزب الله" جماعةً "إرهابيّة"، وهو ما اعترض عليه الجانب اللبنانيّ الرسميّ في وقتها، كان من الطبيعي أن يتوجّس كثيرون من أن يكون الحزب هو المقصود، وبالتالي الهدف الجوهريّ والفعليّ للتحالف في المرحلة المقبلة، وبمعنى آخر، أن يكون الحزب عمليًا هو المستهدَف الحقيقيّ من هذا الاجتماع. وقد أوحى ذلك للكثيرين وكأنّ التحالف مصوّب ضدّ "حزب الله"، ولو لم يسمّه بالاسم، الأمر الذي كان من شأنه أن يضع لبنان في موقفٍ حرجٍ لا يُحسَد عليه، باعتبار أنّ انضواءه في تحالفٍ يريد مواجهة حزبٍ هو في الجوهر أحد مكوّنات الحكومة اللبنانية حتى إشعارٍ آخر كان يمكن أن يُعطى تفسيراتٍ قد لا تكون من المصلحة اللبنانيّة، في هذه المرحلة الدقيقة التي يشهدها لبنان أصلاً، على وقع الأزمة الحكومية التي يرزح تحتها.
أيّ تداعيات؟
قد لا تعني عدم مشاركة لبنان في اجتماع وزراء دفاع ما يسمّى بـ"التحالف الإسلاميّ ضدّ الإرهاب" أنّ لبنان ماضٍ قدمًا في المواجهة مع المملكة العربية السعودية، بعد ما شاب العلاقات في الآونة الأخيرة من خضّات واهتزازات على غير صعيد، خصوصًا أنّ مشكلة لبنان مع هذا التحالف بالتحديد ليست وليدة اليوم بل تعود إلى زمن التأسيس وربما قبل ذلك.
إلا أنّ هذه الحقيقة لا تعني في المقابل خلوّ هذه الخطوة من الرسائل السياسية النوعية، خصوصًا أنّها تترافق مع خطابٍ جديدٍ حتى ممّن يُعرَفون بـ"رجال السعودية" في لبنان، ليس فقط لجهة عدم كسرهم الصمت عن هذه الخطوة، إيجابًا أو سلبًا، فحسب، بل أيضًا، لجهة ما يُحكى خلف الكواليس عن "انقلابٍ" بدأ يُترجَم، ولو حافظ على "نعومته" حتى إثبات العكس...